الصلاة والكتاب(2)
| prayer# مقدمة
تحدثنا سابقًا أن الذكر اشتمل على ثلاث مصاديق: الأول هو الصلاة، والثاني هو القرآن وأخيرًا الذكر باللسان، والصلاة ذكر لأنها اشتملت على الذكرين الأساسيين وهما القرآن والتسبيح، وهذا ما سيتضح أكثر أثناء هذا البحث إن شاء الله، نواصل الحديث حول تعريف الصلاة، قبل البدء نلخص ما تحدثنا به سابقًا، تحدثنا سابقاً حول جانبين من جوانب الصلاة حسب ورودها في القرآن الكريم وهما: الصلة وَ الذكر، وفي الحلقة السابقة تحدثنا عن علاقة الصلاة بالكتاب المنزل في ثلاث سور وفي 4 آيات، بداية سورة المزمل، وآخر آية فيها، ثم سورة العلق وأخيرًا في سورة هود في قصة نبي الله شعيب، رأينا كيف تم التبديل في استخدام اللفظ بينهما وكأنهما شيء واحد و يمثلان حقيقة واحدة.
# الصلاة والكتاب
لازلنا في هذا الخضم نبحث في قراءة آيات أخرى تعطي نفس الدلالة لنفهم معنى الصلاة أكثر، وفي هذه الحلقة نؤكد على ذلك المعنى من خلال قراءة آية أخرى تأكيدًا على نفس موضوع تبديل الألفاظ للدلالة على ذات المعنى، نبدأ في آية (أقم الصلاة) في سورة الإسراء :
# أولًا : آية أقم الصلاة
﴿أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً ﴾ الإسراء ( 78) – (82)
هذه آية أخرى تضع هذا الربط وهذا الانسجام بين الصلاة والقرآن، لنتأمل الاية (78)، الآية تقول في بدايتها: (أقم الصلاة) يتحدث عن إقامة الصلاة بكيانها المبني على القيام والركوع والسجود، ثم تحدد الأوقات: "لدلوك الشمس إلى غسق الليل" ثم تنتقل لتحديد صلاة ثالثة وتسميها :" قرآن الفجر" إن قرآن الفجر كان مشهودا.
نلحظ في هذه الآية تبدل لفظة صلاة ب قرآن في قوله تعالى : " قرآن الفجر" والتي نفهمها أنها صلاة الفجر، حيث أن الآية تجري مجرى تحديد صلوات اليوم، فمقدمة الآية تقول: أقم الصلاة، والعطف في قوله "وقرآن الفجر"، يفهم على نفس السياق فنقول : وأقم صلاة الفجر، ولكنه استبدل كلمة الصلاة بكلمة القرآن، وكأنه يؤكد على أن المصلي في هذا الوقت سيقرأ القرآن أثناء قيامه للصلاة.
مرة أخرى تتأكد لنا حقيقة أن الصلاة والقرآن هما وجهان لحقيقة واحدة، ونريد بعد هذا الاستقراء الذي سنكمله لاحقًا إن شاء الله بجوانب وآيات أخرى، أن نفهم المعنى من هذه العلاقة. والآن نريد أن نعود لآية صلاة شعيب في سورة هود لنؤكد هذه الحقيقة:
# ثانيًا: آية "أصلاتك تأمرك"
تقول الآية الكريمة على لسان قوم شعيب:
﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ هود (87)
الآية تعرض الصلاة وكأنها مصدر من مصادر التشريع بالنسبة لشعيب أمام قومه، ولكننا نعلم أن مصدر التشريع هو الكتاب السماوي، والحقيقة هي أن التشريع من معطيات الكتاب، والكتاب جزء من الذكر، والذكر هو ركن أساسي في إقامة الصلاة، على هذا الأساس يمكننا أن نفهم أن الصلاة تشمتل على التشريع، لذا يصح أن نقول أن الصلاة هي من تأمر وتنهى كما أن الكتاب يأمر وينهى.
وعلى هذا يمكننا أن نقرأ آية : "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" في سورة العنكبوت، بصورة أخرى يقول الله عز وجل:
# ثالثًا : "آية إن الصلاة تنهى"
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ العنكبوت (45)
الآية تأمر بتلاوة الكتاب: "اتل ما أوحي إليك من الكتاب" ، ثم تأمر بإقامة الصلاة " وأقم الصلاة"، والسؤال هل هما أمران مختلفان أم أنهما يجسدان في حقيقة واحدة؟ أليست هذه الآية بهذا النسق هي قريبة من آية سورة العلق، والتي بدأت بالأمر بقراءة القرآن " اقرأ باسم ربك الذي خلق" ثم تبين في منتصف السورة أن الأمر هو أمر بإقامة الصلاة " أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى" ثم انتهى في نهاية السورة إلى أمر بالسجود لله عز وجل؟ نعم هو نفس الترتيب الذي يؤكد ارتباط التلاوة بأقامة الصلاة، والآية تجري بنفس الروح التي تحدثت بها سورة المزمل، التي أمرت بإقامة الليل ثم أمرت بترتيل القرآن ترتيلًا.
في هذه الآية، وبعد أن أمرت بتلاوة الكتاب، وإقامة الصلاة تبين أن للصلاة نهي : " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، والحقيقة أن الكتاب كنص هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، وهذا نوع من أنواع الانسجام بين النص الآمر وهو الكتاب، وبين الصلاة التي تحوي في كيانها ذلك الكتاب.
تختم الآية بقولها : " ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون"، والسؤال : إلى أي ذكر تشير الآية: إلى الكتاب أم إلى الصلاة؟ علينا بعد معرفة هذا الإنسجام أن نقول بأنها تشير لهما كلايهما، لأنهما واحد. لتؤكد أن إقامة الصلاة أكبر ، لأن إقامة وتطبيق الكتاب أكبر، أما خاتمة الآية تتحدث عن صنع الإنسان " والله يعلم ما تصنعون" أي أن الله يعلم إن كنتم تطبقون كتاب الله أم لا؟!
إذًا في آية شعيب، كانت الصلاة تأمر، وفي هذه الآية الصلاة تنهى، وكلاهما أمران متعلقان بالكتاب ولكنهما نسبا إلى الصلاة، نختم هذه المجموعة من الآيات بآية في سورة الأنعام ربطت بين الإيمان بالكتاب وبين المحافظة على الصلاة،
# رابعًا : آية "على صلاتهم يحافظون"
يقول الله عز وجل :
﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ الأنعام (92)
في هذه الآية مؤشر آخر يؤكد ارتباط هذين العنوانين ببعضهما البعض، الكتاب والصلاة، "وهذا كتاب أنزلناه مبارك" إشارة إلى القرآن الكريم، " مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها" ثم جعلت مدخل الإيمان بالكتاب وجود صفتين مهمتين هما : الإيمان بالآخرة والمحافظة على الصلاة، " والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون" .
# خامسًا : ملخص
اتضح لنا في البداية أن الصلاة، القرآن والتسبيح كلها مصاديق للذكر، ثم اتضح ارتباط الصلاة بالكتاب، كون أن الصلاة تحوي هذا الذكر، ولذا يمكن أن نطلق على صلاة الفجر قرآن الفجر، وعودًا على مبدأ أن الصلاة صلة يمكننا أن نفهم معناها في ظل ارتباطها بالذكر، فهي ارتباط العبد بصاحب الكتاب، فإذا قويت الصلة قوي ارتباط المؤمن بكلمات الكتاب لأنها كلمات الله، وقوي نتيجة لذلك تطبيق المؤمن للكتاب، فيأتمر بما يأمر به وينتهي عما ينهى عنه.
فارتباط المؤمن بالله سينعكس حتمًا على سلوكه من خلال التزامه بالشريعة، والعكس صحيح، فعدم التزام المؤمن بالتشريع هو مؤشر على انقطاع الصلة بين العبد وبين المشرع، وحين يأمرنا الله عز وجل بالاستعانة بالصبر والصلاة، فالصبر يكون على شيئين على المكاره وعلى الطاعات، فالصلاة هي المصدر المعين على تنفيذ أومر الله والالتزام بأخلاق الشريعة.
ويمكننا أن ننظر لتلك الحقيقة من ناحيتين الشكل والمضمون، فمن ناحية الشكل نقول: لا توجد صلاة بلا قراءة قرآن، أو أن قراءة القرآن هي أساس لإحداث الصلة (الصلوة) بالله عز وجل، أما من ناحية المضمون فنقول أنه لدينا إقامتان متلازمتان هما إقامة للصلاة وإقامة للكتاب، إذ لا يمكننا أن نقول عن أحد أنه من المصلين وهو لا يقيم الكتاب ولا يتخلق بقيمه ولا يفعّل أوامره، إقامة الصلاة متلازمة مع إقامة الكتاب.
وعلى هذا نصل إلى نتيجة مهمة وهي أن حقيقة الصلة ستتضح في مدى تذكر هذا الإنسان بأوامر الله، وتذكرها يكون عمليًا من خلال التطبيق، فكلما تذكر الإنسان كان أكثر قربًا من الله، أما إذا نسي فقد انقطعت صلته بالله. وإذا وقع في المعصية تبين أنه قد نسي ما أمره الله به.