مدونة حلمي العلق

القنوت

 | prayer

مقدمة

تحدثنا في الحلقة السابقة حول القيام والذي يعد المحور الثالث من محاور تعريف الصلاة، وقلنا بأن القيام هو وقوف مخصص لإجلال الله وتعظيمه أثناء لقاء الله في الصلاة. كنا قد عرضنا محاور ثلاثة من أجل تعريف الصلاة، وقلنا باختصار أن القيام لله هو وقوف لإجلال الله بذكر مخصص لإحداث الصلوة بين العبد وربه، فالقيام ليس وقوف وحسب ولكنه وقوف لقضية كبرى وأمر هام. فإذا ما وردت هذه الكلمة فهي أحد مؤشرات الصلاة، كما ذكرنا أن هناك إقامتان: إقامة للصلاة وإقامة للكتاب، وقد فهمنا سابقًا في سورة المزمل في الآية الأولى و الأخيرة منها أن المقصود من عبارة "قم" هي من أجل إقامة الصلاة. يقول الله عز وجل في بداية سورة المزمل :

﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ۝ قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ المزمل (1) – (2)

هذه أول آية أمرت بالقيام لله في الليل، وحين أمرت بالقيام وترتيل القرآن فهمنا بتلقائية أنه يأمر بإقامة الصلاة، فما المعنى من أن يقوم المؤمن الليل؟ وأساس موضوع القرآن هو إعادة ربط الإنسان بربه بعد أن انشغل بغيره؟ فالعبارة في قوله تعالى : "قم الليل" تضمر فيها معاني تشتمل على: قم لله لإداء الصلاة في الليل، كل الليل إلا قليلًا منه، ولا يكون المعنى اترك النوم واجلس بلا فعل! أو قف على قدميك فقط، وإنما قف قيامًا لله لإحداث الصلة، وذات المعنى يتأكد نهاية سورة المزمل آية 20

﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ المزمل (20)

"إن ربك يعلم أنك تقوم" أي يعلم أنك تقوم لله بالصلاة في هذه المدة التي حددها الله لك وهي أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثة، فهذا القيام الذي تشير له الآية ليس وقوفًا على القدمين بلا معنى، بل هو مقرون بشعور اللقاء بالله والذي يحدث الصلاة. نكمل حديثنا عن القيام ولكن في هذه الحلقة نخصص الحديث عن طبيعة القيام الذي أمرت به آية (حافظوا على الصلوات)، وهو القنوت، نعود للآية الكريمة:

القنوت

يقول الله عز وجل في سورة البقرة :

﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ البقرة (238)

كان حديثنا حول هذه الآية في الحلقة السابقة حول القيام حيث توقفنا عند قوله تعالى "قوموا لله"، دون أن نتطرق لكلمة "قانتين"وهي صفة هامة أضافتها الآية لذلك القيام، أي فليكن قيامكم لله بالقنوت. فما هو القنوت؟ نعود للقرآن للتعرف على استخدام هذه الكلمة، ثم نعاود الحديث عن آية المحافظة على الصلاة لنحقق المعنى منها في موضوع الصلاة.

كلمة القنوت

ذكرت كلمة القنوت في القرآن الكريم (11) مرة، ثلاث مرات منها في موضوع الصلاة، و تعبر في استخداماتها عن الذلة والتواضع والانقطاع التام في الإيمان. والقنوت هو عودة المؤمن لربه بإيمان منه أنه الملاذ الذي يلوذ به، وهو مرتبة إيمانية يكون المؤمن فيها منسجماً انسجاماً تاماً مع أوامر الله فيستسلم لها بإحسان وبما يُرضي الله عنه، ذكرت الكلمة في موضوع العلاقة الزوجية وفي قبال مشكلة النشوز ، يقول الله عز وجل :

﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ﴾ النساء (34)

ففي العلاقة الزوجية المرأة القانت عكس المرأة الناشز الرافضة لبقاء العلاقة الزوجية والتي لا تطيع زوجها في المعروف ولا تحفظ غيبته، ولهذه المشكلة ظاهر وباطن، ظاهره عدم الانسجام وباطنه الكراهية والنفور، أما المرأة الصالحة فسميت بالقانتة لأنها لا تفشي أسرار زوجها لغيره، وهذا القنوت يشتمل على معاني منها أن المرأة الصالحة حاضرة في الحياة الزوجية بتواضع ولهذا القنوت ظاهر وباطن، فظاهره حسن العشرة وباطنه الحب والرضى، والانقطاع للزوج دون غيره.

وصفت الآية مريم بنت عمران بأنها كانت من القانتين، يقول الله عز وجل :

﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ﴾ التحريم (12)

مريم ابنة عمران عندما صدقت بكلمات ربها ثم أطاعت ربها من خلال تلك الكلمات، وفيها معنى الانشغال بها والانقطاع عن غيرها ورفض ماسواها، رغبة والتزامًا طوعًا لا كراهية. فدرجة الإيمان بالله وبكتبه وبكلماته القنوت لأنه توجه لتلك الكلمات بانقطاع عن غيرها.

﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ النحل (120)

الآية تتحدث عن قوة إيمان نبي الله إبراهيم بالله عز وجل وشدة تعلقه بتعاليم السماء ومكانته وموقعه في الدين فوصفته بأنه أمة قانتًا لله، وصف الآية لهذا الإمام بهذا الوصف ذلك لأنه مؤسس الملة والذين جاءوا من بعده اتبعوا تلك الملة فتأسست به أمة التوحيد، ثم تقول الآية بأنه كان قانتًا لله، وهذا الوصف فيه دلالة على ابتعاده عن أي أمر لم يأمر به الله، فلم يكن ليلتفت لغير ما أمر الله به، ولا يطبق غيره،وما يؤكد ذلك الابتعاد الوصف اللاحق : "حنيفًا" ، أي مائلًا عن ما كان عليه المشركون من عقائد وأحكام ما أنزل الله بها من سلطان، فمال عنهم كل الميل ولم يأخذ بشيء من أقوالهم ولا أفعالهم.

فكلمة "القنوت" في الآية تعطي دلالة واضحة على اخلاص نبي الله إبراهيم لربه، ذلك الإخلاص الذي خلصه من دنس المشركين، وهذا الإخلاص لم يكن لولم ينقطع عن قومه ولو لم يمل بوجهه عنهم، فيمكننا أن نستنتج أن كلمة "القنوت" في هذه الآية أعطت دلالة بالانقطاع التام الذي يجعل المؤمن في انعزال عن غير ما يؤمن به، وهي ذات الصفة التي يمتدح الله بها بقية المؤمنين في آيات أخرى، يقول الله عز وجل:

﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴾ آل عمران(17)

الآية تمتدح المؤمنين المرضيين بخمس صفات أحدها أنهم "قانتين" ، الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار. مايهمنا من هذه الصفات – حسب البحث - هي صفة القنوت، هم قانتون لله، ومعنى ذلك أنهم منقطعون لله في العبادة خاشعين فيها، مخلصون لله في العبادة والشكر، و سمي الدعاء قنوتاً لأنه مسألة تنقطع فيها بالدعاء لله ولا تسأل فيها غيره. نعود بهذا المعنى لآية " حافظوا على الصلوات "

القنوت والصلاة

يقول الله عز وجل :

﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ البقرة (238)

لقد أمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلاة والقيام لله في حالة من القنوت "وقوموا لله قانتين" ، أي أنه جعل القنوت من مقومات الصلاة، لقد رأينا أن لكلمة القنوت علاقة بالانشغال بالشيء والانقطاع عن غيره، فإذا كان الحديث عن الصلاة التي هي قيام لله ولقاء معه عز وجل سيكون معنى القنوت هو أن نقوم لله منقطعين له منشغلين بالذكر فقط، وهذا يؤدي إلى الامساك عن الكلام أثناء القيام لله في الصلاة، والتوقف عن الحديث أو الانشغال في أمور الدنيا، وعدم الالتفات لأي شيء آخر إلا ما يدور في هذا اللقاء، تعبيرًا عن التقدير العالي والأهمية القصوى لهذا اللقاء فلا يصح أن يَشغل المصلي عن صلاته شاغل.

ولهذا القنوت ظاهر وباطن، ظاهره هو الامساك عن الكلام إلا فيما يتعلق بالصلاة، والتوجه التام للعبادة وعدم الالتفات إلى شؤون الحياة وعدم الالتفات لا بسمعه ولا ببصره ولا بلسانه إلى غير الصلاة، وباطن ذلك الانقطاع هو إخلاء القلب من كل هم يشغله إلا من الذكر الذي هو القرآن والتسبيح، ومايحويه ذلك الذكر من معاني.

يمكننا القول أن القنوت هو تمام القيام لله، فلو قام المؤمن ولكنه لم يقنت يكون قيامه ناقصًا في المعنى وفي المبنى، أي ينقص من معنى الصلاة، وكذلك ينقص من أداء الصلاة على وجهها، وإذا كان القيام هو لأمر هام فلا يمكن أن يكون الإنسان قائمًا لأمر هام كلقاء الله وهو غير ممسك عن الالتفات أو الكلام، سواء كان ذلك في الظاهر أو الباطن.

والقيام هو تمام الذكر من تلاوة أو تسبيح، فلو ذكر الإنسان في أوضاعه المختلفة لم يكن ذلك ليعادل ذكره لله أثناء القيام، فالقيام تعبير جسدي عن قيمة ذلك الذكر من آيات وتسبيح، وأخيرًا فمعنى أن يبقى الإنسان ذاكرًا فهذا فهذا تمام عدم النسيان، فمداومة الإنسان على الذكر هو ما يؤهله لأن يكون من غير الناسين لأوامر الله وعقائد وشرع وأخلاق الكتاب التي أمر بها. وملخص ذلك يمكن أن نمثله في الشكل التالي:

ملخص مستويات الصلاة

صلة المؤمن بربه دائمة لا تنقطع بانقضاء الصلاة، لأن الصلة تكون معلقة بعدم النسيان، وترقى إلى الذكر، وتمام ذلك الذكر هو القيام وتمام القيام للشيء القنوت له، فلو انقضت الصلاة انتقل المؤمن من حالة القيام إلى مرتبة أقل من مراتب الصلاة وهي الذكر المستمر باللسان وفي القلب، وإذا لم يكن كذلك ومسه طائف من الشيطان تذكر ولم يقع في المعصية، أما إذا نسي كان عرضة للوقوع في المعاصي، "فنسي ولم نجد له عزما"، وإذا وقع في المعصية انتقضت صلته بالله. نختم بآية تؤكد على معنى القنوت وارتباطه بالصلاة :

﴿ **يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ آل عمران (43)

تقول الآية مخاطبة مريم عليها السلام : " واركعي مع الراكعين" والراكعون هم الذين يؤدون الصلاة بالقنوت لله قيامًا وركوعًا وسجودا، ونفهم أن النداء هو أن يامريم اقنتي مع القانتين، واسجدي مع الساجدين، واركعي مع الراكعين، وعليه يكون النداء لمريم (ع): "يامريم اقنتي لربك" هو نداء لإقامة الصلاة، أما صيغة الأمر فجاء بالأمر بالقنوت "اقنتي" أي انقطعي لربكـ ، وهذه هي حالة من يؤدي الصلاة، أن يكون ممسكًا عن الكلام أثناء الصلاة قيامًا وركوعاً وسجودًا.

الركوع يستدعي من الراكع أن ينقطع إلا لمن هو راكع له، والسجود كذلك، فهما وضعيتان تؤديا للقنوت لله، وقد ألصقت هذه الصفة بالقيام لتشمل كل حالات المصلي، بالإمساك عن الكلام في الظاهر، أما الأصل فهو تخلية من غير معاني الصلاة في الداخل.

والحمد لله رب العالمين.