مدونة حلمي العلق

نقض التسبيح

 | prayer

مقدمة

تحدثنا في الفصل السابق عن رحلة البحث عن الإله وربطنا ذلك بقيمة الصلاة، فكانت النتيجة هي أن الباحث الحق عن الإله يبحث عن صلاة دائمة لا انقطاع لها لإقامتها، وهذا يتوافق مع صفات المؤمنين في القرآن الكريم الذين هم دائمي الدعاء ودائمي التسبيح وبالتالي هم دائمي الصلة مع ربهم العزيز الغفور.

ندخل بهذه الحلقة في فصل جديد من فصول هذا البحث وهو الفصل المتعلق بالتسبيح، نريد أن نفهم معنى التسبيح ونفهم كذلك علاقته مع بعض حركات الصلاة، ونريد أن ندخل إلى معنى التسبيح من خلال الآيات الكريمة، ونتساءل كيف استخدم القرآن الكريم هذه الكلمة؟ ولأن موضوع التسبيح هو موضوع واسع وكبير، ويشغل حيزًا كبيرًا في القرآن الكريم، نأخذه على مراحل ونتوغل فيه برفق، ونبدأ في حلقة اليوم بالتعرف على التسبيح من زواية ما ينقض التسبيح.

نبدأ بفهم ما ينقض التسبيح من خلال بعض المواقف التي عرضها القرآن الكريم، ثم من خلال ذلك النقض نتوصل إلى المعنى العملي للتسبيح، نستعرض نوعين من هذا النقض، النوع الأول هو ما يمكن أن نسميه بالنقض الصريح وهو مايوقع المؤمن في الشرك – نستعيذ بالله – أما النوع الثاني هو النقض غير الصريح.

نستعرض في حلقة اليوم ثلاث آيات، الأولى تبيّن النقض الصريح للتسبيح، ثم آيتين تستعرضان النقض غير الصريح، أحدها في القول والثانية في العمل، لنلحظ في كل الآيات مسألة هامة وهي كيف استخدم القرآن الكريم كلمة التسبيح، ثم بعد ذلك نقف لمحاولة تحديد المعنى الجدي والعملي من التسبيح.

النقض الصريح للتسبيح

يقول الله عز وجل:

﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ يونس (68)

الآية الكريمة تستعرض ادعاء بعض أهل الكتاب اتخاذ الله ولدًا سواء كان عيسى أو عزير أو حتى ما كان من مشركي مكة من اعتبارهم الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا، والآية تعقب على ذلك الشرك الصريح بالتسبيح، فتقول سبحانه، ثم تبين ما تم نقضه من تنزيه لله في هذا القول، فقالت ﴿ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾، إذًا ذلك القول نقض تنزيه الله عز وجل في غناه المطلق، ونقض ملكه المطلق لهذا الكون ومافيه من مخلوقات، ثم تبين الآية كذب ذلك القول بمطالبتها بالسلطان : ﴿ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا ﴾، ليتضح أنها عقيدة دخيلة على الدين، ما أنزل الله بها من سلطان، وعليه فقد أفسدت هذه العقيدة الدين وأدخلت أتباعها في الشرك الصريح الذي يحاسب الله ويعاقب أصحابه، لأنه لم يستند على علم من الكتب السماوية ﴿ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾.

تبيّن لنا هذه الآية الكريمة النقض الصريح لتسبيح الله عز وجل بسبب الكذب على الله، وهذا النقض يقع فيه المشركون الذين اتبعوا الظنون وانحرفوا عن كتاب الله، ولقد نقضوا تنزيه الله بالعمد لأنهم أرادوا أن يعلو بشرًا - وهو نبي الله عيسى- ويجعلوا بينه وبين الله نسبًا وقرابة تؤهله أن يكون المخلص لهم يوم القيامة. ولكن قدر الله أعلى من ذلك، فهو الغني أن يكون له ولد، وله مطلق الملك في السماوات والأرض، ونبي الله عيسى وإن علت مكانته إلا إنه بشر من مخلوقات الله، ووضع هذا المعتقد ينقض الكمال المطلق له عز وجل بصريح العبارة، وبالافتراء المرفوض.

وهنا نلحظ أن كلمة (سبحانه) تأتي في سياق نفي تلك الميزة المعطاة لنبي الله عيسى (ع) أولًا، ثم اقرار الكمال والملك والغنى لله عز وجل، فلا نبي الله عيسى ولا أحد من المخلوقات يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة، لأنه هو الغني وهو المالك وله في السماوات والأض. كما ويتضح أن اعتقاد الكمال لله لا يكفي لإتمام التسبيح، بل لابد من نفي أي كمال عن غيره، فنسبة والولد لنبي الله عيسى يعني أنه لابد وأن يأخذ شيئًا من ميزات الألوهية التي هي من ممتلكات الله وحده، ولكن كل تلك الكمالات لله وحده دون غيره.

إذًا هذه الآية توضح نقض التسبيح الصريح الذي يوقع الإنسان في الشرك الواضح البيّن، أما على مستوى الخفاء فلا يتضح نقض التسبيح من خلال القول المصرح به، ولكن من خلال الاستنتاج.

النقض الخفي للتسبيح في القول

أما المستوى الثاني هو النقض الخفي للتسبيح والذي يقع فيه المؤمن من دون تعمد في قوله، ولكن هذا النوع لا علاقة له بذلك التصريح المبني على الكذب على الله، ولكن يقع بسبب غفلة أو تسرع أو ماشابه، نأخذ على ذلك مثال حوار الملائكة مع الله عز وجل حول مشروع خلافة الإنسان في الأرض، يقول الله عز وجل :

﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ البقرة (31)-(32)

بعد عرض مشروع الخلافة على الملائكة، تساءل الملائكة تساؤلًا قريبًا من معنى عدم الاقتناع بالخلافة قائلين : ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾؟ كيف يكون أن تجعل فيها من يفعل أعظم فعل سيء وهو سفك الدماء، ويترك أعظم شيء حسن وهو التسبيح، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟! فكان الرد الرباني ﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾، هناك شيء غير هذا الذي تقولونه سيكون من هذا الإنسان.

وحتى يبين لهم مايعلمه مما سيكون من بعض البشر على خلاف ذلك السوء، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ﴾ عرض الصالحين من بني البشر ثم سأل : ﴿ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾، الله عز وجل يأمر الملائكة أن يخبروه عن أسماء العباد الصالحين الذين عرضهم، ولكن لا علم للملائكة بحقيقة تلك الأسماء، فإذا طلب منهم عز وجل هذا الأمر وأجابوا فهم يعلمون الغيب! لكنهم لا يعلمون! والسؤال يرجعهم إلى حقيقة أنفسهم، فإذا كنتم لا تعلمون الغيب، فلم قلتم مقالتكم وكأنكم تعلمون الغيب؟!

رجع الملائكة إلى أنفسهم وعلموا أنهم تأولوا الغيب على الله، فانكشف لهم نقض التسبيح، وحين أجابوا على السؤال لم يكتفوا بنفي العلم عنهم، بل جعلوا التسبيح مقدمة هامة في إجابتهم لله عز وجل، وبيّنوا أنه لا يمكن للعلم أن يكون من ذواتهم بل هو منه، ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾.

نلحظ أولًا أن نقض التسبيح لم يظهر واضحًا في الوهلة الأولى، و قد مر على الملائكة بتسرع وغفلة منهم، لكنه اتضح جليًا بعد السؤال الرباني للملائكة، وبالتحديد حين وجه لهم سؤال الإخبار عن المستقبل: ﴿ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ، في هذه اللحظة انكشف لهم أن شيئا من نقض التسبيح قد حصل أثناء طرحهم سؤال الاستفهام عن الخلافة بصورة تقريرية عن مستقبلها، فما كان لهم أن يسألوا وكأنهم يرون المستقبل الذي هو غيب مكنون لا يعلمه إلا الله : ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ ويعمموا على جميع البشر أنهم سيكونون على شاكلة واحدة.

ونلحظ كذلك أن التسبيح وقع في موقع النفي والإثبات، حيث نفي الملائكة أن يكون لهم العلم الغيبي بالمستقبل من ذواتهم وأقروا بذلك العلم وتلك القدرة لله وحده، ﴿ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ فما معنى السبحان في هذا السياق؟ معناه شيئان الأول أن لا علم لنا بالغيب إلا بالله، ثم الإقرار بأن العلم كله لله وحده ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾. ننتقل لأخذ مثال قرآني على نقض التسبيح الخفي على مستوى الفعل والحركة والنية الخفية

النقض الخفي للتسبيح في النية

في المثال التالي سنلحظ، نقض آخر للتسبيح يأتي في سياق الحركة أو الفعل أو النيّة التي يبيّتها الإنسان، فقد يقع منه نسيان لحقيقة أن الله غالب على أمره، وأن القدرة المطلقة هي التي تسيّر الأمور والأحداث كما يشاء هو لا كما يشاء الإنسان، المثال نجده في قصة أصحاب الجنة في سورة القلم.

سورة القلم تتحدث عن أصحاب الجنة الذين أقسموا أن لا يدخل جنتهم مسكين، وأن يستحوذوا على كل عطاءها الموسمي لأنفسهم فقط، ولا يستثنون شيئًا منها للإنفاق، فيمنعوا بذلك خيرها وعطاءها عن السائل والمحروم، ولا ينفقوا منها شيئًا للفقراء، ولكن الله عز وجل ذهب بجنتهم ليلًا وقبيل أن يأتي نهار الصريمة ويمضوا إلى ما اتفقوا عليه، حصلت المفاجأة حين رأوا جنتهم وقد أنتهت عن بكرة أبيها، حيث أحرقها الله ليلًا فلم يبق منها شيئًا، لقد ذُكرت كلمة التسبيح من أصحاب الجنة، ونريد أن نفهم من هذه القصة ما الذي نقض التسبيح في نيتهم وفعلهم وهمتهم؟ يقول الله عز وجل :

﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ۝ وَلا يَسْتَثْنُونَ ۝ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ۝ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ۝ فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ۝ أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ ۝ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ۝ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ۝ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ۝ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ۝ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ۝ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ۝ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ القلم (18)-(29)

الآيات الكريمة تكشف نيتهم المسبقة فيما تواعدوا عليه بأن يصرموا جنتهم مصبحين ولا يستثنون منها شيئًا للمساكين ﴿إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ۝ وَلا يَسْتَثْنُونَ﴾، وفي اليوم التالي وبعد أن فعل الله عز وجل في تلك الجنة ليلًا ما لا يعلمون ولا يحتسبون، جلسوا صباحًا، فأصبح بعضهم ينادي على البعض الآخر للتحرك نحو الجنة للصريمة: ﴿ أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ ﴾ انطلقوا بكل حماسة نحو جنتهم، وأثناء توجههم لها مشاعر التمكن والقدرة، وتخافتوا بنواياهم لبعضهم البعض بمنع عطاء تلك الجنة عن المساكين ﴿ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ۝ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ﴾. و كشفت الآية التالية طبيعة حركتهم أثناء المسير للجنة حين وصفت غدوهم بالقدرة ﴿ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ﴾، كلمة "قادرين" تكشف نقض التسبيح المضمر في نفوسهم، فقد أغراهم المُلك فاعتقدوا في أنفسهم أنهم قادرون على تحقيق نواياهم، وأن إرادتهم نافذة.

لكن حين وصولهم للجنة تفاجئوا بما رأوا، بل ظنوا في بداية الأمر أنهم قد ضلوا الطريق! ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ﴾، ولكن بعد التحقق من الأمر أدركوا أنها جنتهم ففهموا ما وقعوا فيه ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ لقد سلب الله منهم الجنة وحُرموا منها، حينها سقط وهم القدرة، ووهم تنفيذ النوايا وتسيير مجريات الأمور على ما تشتهيه الإنفس. بعد ذلك السقوط بدأت العقول تدرك أنهم نقضوا التسبيح: ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ﴾، فهذا واحد منهم يقول لهم كان من المفترض أن نسبح الله حق التسبيح، فما الذي نقض التسبيح في حركتهم؟

عند تتبع النص المبارك لا نلحظ وجود قول صريح بالشرك أو ماشابه، ولا نلحظ أنهم تحدثوا عن الله، أو بيّنوا ما يعتقدونه في الله! ولكن الآيات بيّنت نية سيئة واحساس باطل،ذلك الإحساس هو الذي كان سببًا في نقض التسبيح. لقد تحركوا وهم يعتقدون في أنفسهم بكامل القدرة، تقول الآية المباركة:﴿ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ﴾ فقد ظنوا أن لديهم القدرة على تحقيق مأربهم، ونسوا أن لا شيء يجري إلا بمشيئة الله وإرادته، والذي كشف ذلك المعتقد هو تلك العزيمة التي تنسي الإنسان من هو ومن هو خالقه!

إذًا الذي نقض التسبيح هنا هو نية الحركة، وكان نقضًا خفيًا لم يظهر في القول، وهم لا يقولون أن الله قادر ونحن قادرون أيضًا، أو أن لله مشيئة ولنا أيضًا، ولكن مع الغفلة والنسيان والاغترار بالحياة الدنيا نسوا قدرة الله المطلقة،ومشيئته النافذة، وحين فقدوا تلك القدرة المادية الخادعة تعرت حقيقتهم أماما أنفسهم، حينها استرجعوا وأقروا بظلمهم ﴿ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾. وهذا التسبيح يأتي في سياق نفي أي قدرة لهم، بل وأرجعوا القدرة كاملة لرب العالمين، فلا يشاركه فيها أحد، ولا ينازعه في مشيئته أحد، فهو الفاعل لما يشاء يعذب من يشاء بما يشاء كيف يشاء.

خاتمة

لقد بينت الأمثلة السابقة أن ما ينقض التسبيح هو انقاص حق الإله، فله مطلق الكمال لا يشاركه فيه أحد، وتبين كذلك أن هذا الإنقاص لا يكون بصورة مباشرة – في أغلب الأحيان – فلا أحد ينسب النقص له عز وجل، ولكن ذلك الإنقاص يحصل حين ننسب شيئًا من كمالاته لغيره، وقد وجدنا أن هذه النسبة تكون صريحة أحيانًا، وتكون خفية في أحيان أخرى، أما الصريح فهو ما يقع فيه المشركون، فينسبون شيئًا من تلك الكمالات لغيره بواسطة الكذب على الله، فيقولون أن الله قال ذلك وهو لم يقل، كما اتضح لنا في ادعاء بنوة عيسى (ع).

أما الإنقاص الخفي للكمال المطلق لله عز وجل فهو ما يقع فيه المؤمن بغفلة منه، فينسب شيئًا من تلك الكمالات، سواء كانت قدرة أو مشيئة أو علم أو إحاطة أو قدرة، بغفلة منه أو نسيان، وتظهر تلك الغفلة في فلتات اللسان، أو حركته في الحياة، وفي سلوكياته ومواقفه وكلماته ففيها الكثير الذي يكشف ما يعتقده عن نفسه أولًا وعن الأشياء من حوله، ويدرك متأخرًا أنه قد وقع في نقض ذلك التسبيح، وأنه بأخذ شيء منها قد أنقص من كمالات الله عز وجل حين نسب شيئًا منها إلى نفسه أو إلى أي شيء آخر وهو لا يعلم، فيحق عليه التسبيح الجدي والعملي.

والتسبيح الجدي والعملي يبدأ بتثبيت المعنى في النفس قبل التلفظ به، فيجب على المؤمن أن يطهر قلبه من أي اعتقاد يجري في نفسه أو في أي شيء ظن فيه القدرة أو المشيئة أو أي شيء من كمالات الله المطلقة، ثم يعيد ها له وحده، وهذا ما يقودنا إلى معرفة أن التسبيح نفي وإثبات، نفي بوجود شيء من تلك الكمالات المطلقة ولو بنسبة ضئيلة عند أي أحد، ثم الإقرار بها لله وحده، وهذا ما يتوافق مع إثبات الألوهية، فلا نقول الإله هو الله، بل نبدأ بالنفي فنقول : "لا إله" ، ثم نقرها له وحده ونقول "إلا الله"، وبالمثل هذا ما يجب أن يكون منا في بقية الكمالات، فنقول لاعلم إلا لله، لا قوة إلا بالله، لا مشيئة إلا لله ، وهكذا. وكذلك في موضوع الإيمان، حين نبدأ بالكفر بالطاغوت ثم نعترف بالإيمان بالله، إذ لا يصح أن يدخل الإيمان بالله قلب مؤمن بمزاحمة، فالإيمان كله لله.

نقض التسبيح واسع وكبير في القرآن، نكتفي بهذه الأمثلة، ونسأل الله التوفيق في اتمام هذا العنوان في الحلقات القادمة إن شاء الله.