مدونة حلمي العلق

القيام

 | prayer

مقدمة

نكمل الحديث حول الصلاة، قد تحدثنا في الحلقة السابقة عن علاقة الصلاة بالقرآن والتسبيح، كان الحديث في الحلقات الأولى في تعريف الصلاة من خلال تعريف كلمة الصلة ثم كلمة الذكر، ثم تم ربط مصداقي الذكر وهما القرآن والتسبيح بالصلاة.

كانا هذان التعريفان هما المحورين الأساسين في تعريف الصلاة، كونها صلة و ذكر ، واليوم نتحدث عن المحور الأساسي الثالث وهو القيام، نتناول هذا المعنى من خلال استعراض ثلاث آيات بينت المعنى اللفظي للكلمة وكذلك المعنى المعنوي المتعلق بالصلاة.

القنوت

أولًا: آية إذا مس الإنسان

يقول الله عز وجل :

﴿ وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ يونس (12)

تتحدث الآية منتقدة المؤمن الذي يتوجه لله في الضراء فقط، ثم إذا استقرت به أحواله نسي الدعاء والذكر والتوجه الخالص لله، وعاد إلى سابق عهده من الابتعاد والغفلة والنسيان، وخلاصة مطلب الآية هو ضرورة أن يتوجه المؤمن في دعائه وذكره لله في السراء كما لو أنه في الضراء، لا أن يكون في الضراء بمستوى من الذكر والدعاء والتوجه، ثم يتراجع ذلك في أيام الرخاء.

تقول الآية: "وإذا مس الإنسان الضر"، المس كلمة قريبة من اللمس في المعنى، ولكنها تطلق بالتأثر بالخير أو الشر أو بأي جانب من الجوانب المادية الظاهرة أو المعنوية الخفية التي تؤثر في دواخل الإنسان، فنقول مسه الخير أي أصابه الخير، أو مسه الضر أي أصابه الضر فأثر عليه وعلى مشاعره وأحاسيسه وعلى حياته. والآية تتحدث عن ما يمر بالإنسان من شعور بالضعف والحاجة للمعونة.

في تلك الحالة يقول الله عن الإنسان : "دعانا " أي توجه لله بالدعاء، ثم تذكر الآية حالات ذلك الدعاء بقولها: "لجنبه" وهي الحالة التي يكون فيها الإنسان مضجعًا للنوم، أو قاعدًا أي جالسًا أو مستريحًا على الأرض، أو "قائمًا" وذلك حين يكون واقفًا على رجليه، من خلال هذا التسلسل في أوضاع الإنسان يتأكد أن القيام هو حالة التأهب والإستعداد التي يعبر فيها الإنسان من خلال جسده عن تقديره العالي لمن يقف أمامه. لم تسم الآية ذلك بالوقوف، لأنها كلمة مجردة من الإحساس، ولكن القيام كلمة تشير إلى ذلك التأهب للقاء الله، وهذا ما يؤكد فهمنا إلى أن القيام للدعاء هو قيام لله، وهذا القيام هو لقاء، ولقاء الله هو صلاة.

من خلال هذا التدرج في عرض حالات دعاء الإنسان أو أوضاعه، يمكن فهم أن القيام لله للدعاء يكون للتأهب للقاء الله، وأن هذه الصلة لله لا تتوقف بعدم تمكنه من ذلك، بل إنه يستطيع أن يواصل دعاءه حتى وإن كان جالسًا أو على جنبه، وهي الحالة التي يكون فيها الإنسان على الفراش.

الآية تتحدث أنه مادام الإنسان قد مسه الشر، فألم ذلك الشر متواصل معه، ومادام ذلك الشعور ملازم له، فهو ذاكر على الدوام يدعو الله أن يزيل مابه من محن، وهذا ما يضطره لمواصلة الدعاء على كل حال، وعلى أي وضع، فيظل هذا الإنسان متصلًا بالله بالدعاء ولم يفقد هذه الصلة للحظة واحدة رغم تنوع ظروفه ورغم تنوع أوضاعه وحالاته.

إلا أن الآية تعقب: " فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه"، أي بعد أن تجاوز تلك المحنة وعادت الأمور على ماكانت عليه، فتر وماعاد يذكر الله في تلك الحالات، وضعف في دعاءه وعاد إلى الغفلة والنسيان، وفقد الصلة الدائمة بالله عز وجل. وتعقب الآية في خاتمتها بالقول : " كذلك زين للمسرفين ماكانوا يعملون" كاشفة أن من يقع في حالة التذبذب هذه إنما يكون بسبب وقوعه في الإسراف، وكلمة الإسراف كلمة مطلقة وليست متعلقة بالانفاق في المال، فقد يكون الإنسان مسرفًا في العقيدة أيضا، فإذا وقع في الإسراف في بعض عقائده ولم يكن متزنًا كان نتاج ذلك أن يتذبذب في توجهه لله، فتارة يقبل وتارة يدبر حسب الظروف، أما السلوك الحق الذي تدعو إليه الآية ضمنًا فهو الثبات على ذلك الدعاء في جميع حالات وأوضاع الإنسان.

والآية بهذا تريد من الإنسان أن يظل في صلته الدائمة غير المنقطعة وفي جميع حالاته حتى مع انقضاء المشكلة وانحسار الألم الذي ألم به، والآية تنتقد قائلة: كيف يحصل هذا الأمر من الإنسان؟ أنه يكون ذاكرًا داعيا لله في حالة الضر وفي كل أوضاعه، ثم إذا أنكشف الضر نسى تلك الحالة فعاد إلى الغفلة والنسيان.

إذًا من هذه الآية، تعرفنا على أن القيام هو أحد أهم أوضاع الصلة بالله وخصوصًا في الدعاء، ولا يقتصر موضوع القيام على الدعاء، فهو أحد عناوين الصلاة، ولكن للصلاة عنوان آخر وهو الذكر والتسبيح ونرى أن هناك آيات أخرى تطرقت لموضوع القيام من أجل الذكر لله.

ثانيًا : آية ربنا ماخلفت هذا باطلا

يقول الله عز وجل :

﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ آل عمران (191)

يمكن تقسيم الآية إلى قسمين، الأول هو الذكر ، والثاني هو التفكر ، تصف الآية الكريمة المؤمنين في القسم الأول أنهم دائمي الذكر في جميع أوضاعهم وجميع حالاتهم، في القيام والقعود وعلى الجنوب، ثم تتحدث عن حالاتهم القلبية في القسم الثاني، وتقول أنهم دائمي التفكر في خلق السماوات والأرض، وهذا التفكر يقودهم إلى حقيقة بينة وواضحة وهي أن الله عز وجل لم يخلق هذا الكون باطلًا، ويسبحون الله تنزيهًا له عن أن يكون هذا فعله، ثم يدعون الله بالفكاك من النار.

القسم الثاني للآية هو المقدمة المعنوية التي تقودهم إلى النتيجة التي في القسم الأول منها، أي أن تفكرهم الدائم يجعلهم دائمي الذكر بلا انقطاع وفي جميع حالاتهم، تفكرهم في عظمة هذا الخلق يقودهم إلى حقيقة مفادها أن الله لم يخلق هذا الكون عبثًا، ومعنى ذلك أن تفكرهم هذا يقودهم إلى أن الله سيحاسب الناس بدقة متناهية لا كما يحاول الشيطان عن طريق أعوانه تصوير أنه سيقبل التهاون في العبادة، أو أنه سيقبل في الجنة من لم يستجب لآياته وخالف شريعته، فخالق هذا الكون بهذه الدقة لا يمكن أن يحاسب الناس بهذا التهاون. أما قولهم : " سبحانك " فتنزيه له عز وجل من أن يكون هذا فعله، وعليه فهم يذكرون الله في جميع الأوضاع، ويدعون الله على الدوام أن يقيهم عذاب النار، لأن عذاب ربهم غير مأمون.

إذًا هذه الآية تعرفنا أيضًا، أن القيام هو أحد أوضاع المؤمن لذكر الله، وهذا القيام هو استعداد للقاء الله عز وجل والذي هو الصلاة، فهي العبادة الهامة التي يذكر فيها المؤمن ربه خوفًا من ناره وطمعًا جنته. الآية الأخيرة تؤكد لنا أن القيام لله هو صلاة :

ثالثًا : آية حافظوا على الصلوات

يقول الله عز وجل في سورة البقرة :

﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ البقرة (238)

تأمر هذه الآية المؤمن بالمحافظة على الصلوات الخمس، وتقصد بذلك أداؤها في أوقاتها و بما تحويه من معاني متعلقة بلقاء الله، وتخص الحديث بصلاة تسميها الصلاة الوسطى ، ثم تقول: " وقوموا لله قانتين " والمعنى أن قوموا لأداء هذه الفرائض وإقامة هذه الصلوات لله، ثم تحدد حال ذلك القيام بقولها "قانتين" أي وأنتم في حالة من القنوت لله عز وجل.

الآية توضح بجلاء أن الصلاة تؤدى بالقيام لله، فالقيام له عز وجل يكون من أجل تجسيد لقاءه، واللقاء بالله صلاة، كما بينت الآية ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين، الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) وهذا اللقاء يكون بالذكر الذي خصصه الله عز وجل لهذا اللقاء

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۝ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ۝ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ۝ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۝ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ العلق(1)-(5)

خاتمة

الصلاة في شكلها العام هي قيام لله بذكر مخصوص لإحداث الصلة، هي قيام ديني وهذا القيام الديني مخصوص لله عز وجل، ولكي يتم هذا القيام لابد من ذكر (أقم الصلاة لذكري)، والذكر هو ما فهمناه في الحلقات السابقة أنه القرآن والتسبيح.