مدونة حلمي العلق

التسبيح بالمعنى

 | prayer

مقدمة

درسنا في الحلقة السابقة معنى التسبيح من زاوية نقض التسبيح، أي ما يوقع المؤمن في الإنقاص من حق الله عز وجل، وقد أخذنا ثلاث نماذج، الأولى: في قضية ادعاء الولد لله وتبين لنا أن في هذا نقض صريح للتسبيح ويقع صاحبه في الشرك الصريح، أما النموذج الثاني فكان في قضية مشروع الخلافة والتي من خلالها فهمنا ما يوقع المؤمن في النقض الخفي للتسبيح، ثم في النوايا والمشاعر تلك التي فهمناها من خلال سورة القلم في قصة أصحاب الجنة.

نكمل الحديث عن هذا الموضوع، لنتعرف على كيفية تفعيل التسبيح، فقد تعرفنا فقط على ما ينقض ذلك التسبيح وما ينقص من حق الله ويبقى أن نعرف كيف نعيد هذا الحق له عز وجل؟ لقد فهمنا أن التسبيح هو نفي وإثبات، نفي بوجود شيء من تلك الكمالات المطلقة ولو بنسبة ضئيلة عند أي أحد، ثم الإقرار بها لله وحده، وهذا ما يتوافق مع إثبات الألوهية، فلا نقول الإله هو الله، بل نبدأ بالنفي فنقول : "لا إله" ، ثم نقرها له وحده ونقول "إلا الله"، وبالمثل هذا ما يجب أن يكون منا في بقية الكمالات، فنقول لا علم إلا لله، لا قوة إلا بالله، لا مشيئة إلا لله، وهكذا. وكذلك في موضوع الإيمان، حين يؤمن المؤمن يبدأ بالكفر بالطاغوت ثم يعترف بالإيمان بالله، إذ لا يصح أن يدخل الإيمان بالله قلب مؤمن بمزاحمة، فالإيمان كله لله.

أما كيف نعيد الحق لله عز وجل، فيكون من خلال التسبيح الجدي والعملي، والذي يبدأ بتثبيت المعنى في النفس قبل التلفظ به، ومن خلال ما فهمناه من التسبيح من كونه نفي وإثبات نفهم أنه يجب على المؤمن أن يُطهر قلبه من أي اعتقاد يجري في نفسه عن نفسه أو عن أي شيء ظن فيه القدرة أو المشيئة أو أي شيء من كمالات الله المطلقة، ثم يُعيد تأكيد اعتقاده بمطلق القدرة لله وحده، وهذا يعني أن التسبيح يدور في مدارين رئيسيين، الأول: إنكار الأنا، بكل ماتعنيه كلمة الأنا من معنى ذاتي أو حتى ما تشمله من دائرة أوسع، أما الثاني فيدور في فلك الواحد الأحد بالحمد والتمجيد والإقرار له بمطلق الملك.

لفظة التسبيح التي نتلفظ بها تبقى جوفاء مالم تمتلئ بالمعنى، ونبدأ في هذه الحلقة بتطبيق فهمنا للتسبيح العملي في الآيات التي تمت دراستها في الحلقة السابقة لنعلم ما يجب على المؤمن في كل حالة من تلك الحالات كي يعود للتسبيح الحقيقي، ويمكننا أن نعد تلك الأمثلة نماذج للتسبيح الاستدراكي والذي يقع في موقع الاستغفار، وهو الذي يقع بعد الغفلة أو النسيان فيستدرك فيه المؤمن بالتسبيح، وننتقل بعد ذلك لإدراج مثالين هما بمثابة التسبيح الدائم أو التسبيح الوقائي الإستباقي والذي يعبر عن وعي المؤمن الدائم بقدره وقدر الله عز وجل دون الوقوع في الخطأ.

اتخاذ الولد

﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ يونس (68)

قد يتصور المعتقدون بالولد أنهم بهذا المعتقد إنما يشيرون بالمجد لنبي الله عيسى (ع)، ولكنهم لا يعلمون أنهم بهذا إنما يُنقصون من حق الله، فهذه النسبة (الولد) تعني أن هناك أحدٌ غيره سبحانه قد اقترب من دائرة القداسة التي لا يدانيها أحد، فإذا أقررنا بأن أحدًا قد اقترب منها فقد أنقصنا من قدر الله عز وجل من حيث لا نشعر.

التسبيح المعنوي والعملي لهذا النقض الصريح هو نبُذ الاعتقاد بأن لله عز وجل ولد أو قريب أو نسيب، فلا أحد يداني قدسه، وكذا رفض أن يكون بحاجة لأحد من خلقه، ثم الاعتقاد بالغنى والملك المطلق، فسبحانه أن يكون له صاحبة وسبحانه أن يكون له ولد، فهو المالك الذي لا يشاركه في مملكته أحد، والغني الذي لا يشوب غناه فقر لشيء ولا حاجة، وعلى المؤمن أن لا يقر بشيء في العقيدة لم تكن بسلطان من عند الله.

هذا في شأن النقض الصريح للتسبيح، أما في شأن النقض الخفي فقد درسنا آيتين، هما:

خلافة الإنسان

﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ البقرة (31)-(32)

أما من خلال هذه الحادثة، فقد تعلمنا من الملائكة المكرمين كيف يجب أن تكون درجة الحساسية العالية لدى المؤمن في محاسبة نفسه ومراجعة قوله الذي قد ينقض التسبيح وهو لا يعلم، وقد تعلمنا من قولهم النفي والإقرار، ومن هذا يمكننا أن ندقق في مشاهد الحياة المليئة بالأحداث والتي نرجعها لأقدار ربانية، فليس لنا الاعتراض عليها في ألفاظنا وكأننا نعلم مآلات الغيب، أو كأن لنا الحكمة التامة والمعرفة بتفاصيل الأمور، يجب ان نستحضر جهلنا وضعفنا وعدم علمنا أمام مجريات الأمور التي يصعب فيها فهم الحكمة الربانية من ذلك الموقف، وعليه فإن التسبيح العملي لا يكون فقط بتسبيح اللسان، هذا لا يكفي بل لابد من استحضار تلك المعاني التي تَنفي عن النفس امتلاكها ولو لنسبة بسيطة من العلم أو الحكمة، ثم الإقرار التام بذلك لله وحده.

أصحاب الجنة

﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ۝ وَلا يَسْتَثْنُونَ ۝ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ۝ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ۝ فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ ۝ أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ ۝ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ۝ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ۝ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ۝ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ۝ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ۝ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ۝ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ القلم (18)-(29)

في هذه الحادثة نتعلم كيف يجب أن يُطهر المؤمن قلبه من أي نية سيئة، وأن لا يمضي في إنفاذ الأمور إلا بعد التوكل على الله، فإحساس هؤلاء بالقدرة جرأهم على مخالفة أمر الله في وجوب اعطاء المساكين، فلنكن على حذر من أنفسنا وما تسوله لنا من أوامر ولا ننسى قدرة الله علينا.

وقول أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون، فهذا يعني أنه ذكَرهم بقدرة الله عليهم، ولكن غمرة السهو أخذتهم نحو تنفيذ مآربهم، وعلى المؤمن أن يتذكر في نفسه قدرة الله عليه على الدوام، فلو نَسي ذلك وظهرت منه سلوكيات تُظهر اعتزازه بقدرته وتفاخره بقوته فقد نقض التسبيح، لذا وحتى يكون تسبيحه سليمًا لابد وأن يتذكر وأثناء لهج اللسان بالذكر كل تلك المعاني التي يُنكر من خلالها ذاته، ويُقر بكل القدرة لله وحده. والوقوع في ما ينقض التسبيح يوجب التسبيح الاستغفاري كما حدث لأصحاب الجنة حين سبحوا الله وشعروا بظلمهم وأقروا به. ونلحظ هنا أن الغفلة هي عدو المؤمن في التسبيح، لذا كان لازمًا أن يُحافظ المؤمن على تذكره وذكره التسبيحي، وهذا ما يؤكد لنا ضرورة دوام التسبيح الذي فهمناه سابقًا.

إذًا ذكر اللسان ماهو إلا داعم ومؤكد لحقيقة وعقيدة راسخة في قلب المؤمن، وهو إنما يؤكد عليها بلسانه حتى لا ينسى قدره ولا ينسى قدر الله وقدرته ومشيئته، وفي كل تلك الأمثلة الثلاث، لا يمكن للتسبيح أن يكون حقًا باللفظ قبل أن يدخل المعنى إلى القلب وقبل أن ترسخ العقيدة في الله بمعناها بأنه الملك الذي لا يشاركه أحد في ملكه ولا يزاحمه أحد في مشيئته.

هذا التسبيح الاستغفاري الذي يقع من المؤمن يقع بسبب غفلة منه ونسيان لحق الله الكامل، فإذا نَسي استدرك بعدها أنه قد أنقص من حق الله، ولا يقف حال التسبيح مع المؤمن كحالة علاجية استدراكية لما قد يقع فيه من نقض للتسبيح، بل هو في الأغلب الأعم حالة استباقية وقائية كي لا يقع في النقض أصلًا، فالإنسان في أصله عدم، وعليه أن يتذكر ويذكر على الدوام أن الملك كله لله. ويبقى أن نشير إلى حالات أخرى تدل على التسبيح الدائم والتسبيح الوقائي والاستباقي في الإقرار بحق الله الكامل وقدره و الإقرار بقدر الإنسان وعجزه في مختلف مواقف الحياة.

آية "أأنت قلت للناس" ؟

﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ۝ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۝ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ المائدة (116) -(118)

تُظهر هذه الآيات الكريمة تقدير المؤمن لله من خلال معرفته بقدره سبحانه، في قبال من غَرق في الشرك بسبب ضياع ذلك القدر، وأعطى مالله لغير الله ولو بنسبة، فإذا كانت الآيات السابقة تحث المؤمن على أن يخلع رداء الكبر والتعالي وأن يتذكر أنه ضعيف فاقد للقوة في تفاصيل الحياة التي توقع في النسيان، فهاهنا نموذج إيماني عالي جدًا يستشف من أخطاء غيره ضرورة التسبيح.

هذه الآية الكريمة تتحدث عن أناس قدسوا عيسى وأمه، واتخذوهما إلهين من دون الله، وحين سُئلوا (يوم القيامة ) عن سبب ذلك التقديس كان ردهم أن عيسى هو الذي أمرنا بذلك، فتأتي المساءلة الربانية لعيسى (ع) يوم القيامة على أعين الناس حتى يسمعه الجميع، ولكي ينكشف لؤلئك الناس نقضهم الصريح لتسبيح الله: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، فيكون الرد من نبي الله عيسى (ع) بالتسبيح: ﴿ قَالَ سُبْحَانَكَ ﴾، هو يسبح الله عن قولٍ نقض تسبيح الله بشكل علني وصريح، لم يقله هو! ولكن قاله الذين انحرفوا عن دين الله باسمه، ثم يسبح الله بالمعنى المطلوب في الموقف: ﴿ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ لقد أخذ أولئك المدعون بهذا القول من حق الله الخالص به عز وجل ونسبوه لعيسى.

ثم يستدرك نبي الله عيسى بقوله : ﴿ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ﴾ سؤالك يارب أنت تعلم إجابته، فسبحانك أن تسأل عن شيء وأنت لاتعلمه، وهنا لا يكتفي نبي الله عيسى بالإجابة وحسب، ولكنه يضيف للإجابة ما يستدعيه الموقف من تسبيح، لوعيه التام بقدر الله، ﴿ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾، لا علم بالغيب لأحد غيرك، وفي هذا التسبيح بيان واضح على كذب ذلك الادعاء، ليس في كون عيسى ينكره أمام من ادعى، ولكن أيضًا يكشف أنه لاينبغي أن تصاغ عقيدة من دون الله وكأن الله لا يعلم عنها، وهنا نقض خفي أعمق للتسبيح، وذلك حين ينقص المشركون من قدر الله بإدخال عقائد ما أنزلها الله في كتبه، فهم بذلك إنما يعلّمون الله بدينهم أو بما لا يعلم في السماوات والأرض، فسبحانه.

وحين يتحدث نبي الله عيسى (ع) ويقول ﴿ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَق ﴾ يكون للتسبيح معنى، فهناك حرم قدسي لله عز وجل، ولا يحق لأحد أن ينتهك ذلك الحرم، وهو بهذه المقولة يشير إلى ذلك الحرم بقوله ﴿ مَا لَيْسَ لِي بِحَق ﴾، فليس لي أن أقول كما تقول أنت، فهو حقك الكامل، وليس لي فيه شيء.

﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۝ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ المائدة (117) - (118)

ثم يُتابع نبي الله عيسى عليه السلام القول ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ﴾ إنما أنا رسول، ولا يتجاوز دوري إداء حق هذه الرسالة وليس لي الحق في أن أقول شيء آخر لم تأمرني بتليغه، وإنما قلت لهم ﴿ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾ هذا أمرك وهذا ما أبلغته لهم، ثم بعد موتي لم أعلم بما يحدث لهم وإنما أنت الذي تعلم لأنك الرقيب على كل شيء ﴿ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾. ثم يختم بقوله وكأنه يستلهم الرحمة من رب العالمين لهؤلاء الناس دون أن يكون له القرار فيقول : ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.

نلحظ أن النص القرآني مشبع بمعاني التسبيح، فلقد أدرك نبي الله عيسى(ع) خطورة الخطيئة التي وقع فيها أولئك الذين ادعوا عليه مالم يقل، وبنوا على ذلك القول عقيدة جعلتهم في مساءلة خطيرة يوم القيامة، ثم يتحدث عن الله بحقه، وينفي عن نفسه أنه يملك ولو شيء من حق الألوهية أو حق التشريع، فهو حق خالص لله. وفي قوله : ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ﴾ يتجسد المعنى الذي نفهمه من التسبيح المقر بحق الله في كل المواقف والمنكر للذات في امتلاكها ولو شيء مما هو خالص لله.

وفي هذا الموقف لم يكن الخطأ من نبي الله عيسى (ع) ، ولكن المشكلة كانت من أولئك الذين ادعوا عليه عقيدة الولد، هو بريئ من هذه الخطيئة –وحاشاه أن يقع في مثل ذلك- ولكنه يُسبح الله، ليس تسبيحًا استغفاريًا استدراكيًا ولكنه تسبيح أقراري بحق الله مستشعرًا فيه الرهبة من الله عز وجل، لأنه يعيش معنى التسبيح على الدوام، لذا كان تعبيره حاضرًا عن حق الله.

يبقى أن نقف وقفة أخيرة في أمر رباني للتسبيح يؤكد فيه الباري عز وجل أن يظل الإنسان ذاكرًا لقدره حتى لاينسى قدر الله وفضله، في تسبيح يمكن أن نصفه بالتسبيح الوقائي الاستباقي، وذلك في آية "سبحان الذي سخر لنا هذا"؟

آية "سبحان الذي سخر لنا هذا"

﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ۝ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾ الزخرف (12)-(14)

لقد فُضل الإنسان على بقية الكائنات الحية بميزات كثيرة جعلت منه سيد المخلوقات، فسخر له الكون وسخرت له المخلوقات والأنعام التي يركبها من أجل أن يبتغي بواسطتها مآربه ومقاصده في الحياة، واحدة من المشاهد التي تختصر ذلك التفضيل ندركه حين نتأمل مشهد استواء الإنسان على الدابة، واستجابة تلك الدواب له حين يسيرها إلى ما يريد. هذا الاستواء يعني تمكن هذا المخلوق على تلك المخلوقات، وبسط نفوذه عليهم بكل سهولة ويسر، وهذا التسخير لم يكن لولا أن الله أنعم عليه بذلك، فالإنسان ومنذ نشأة الخليقة ومنذ أن قَبل بالخلافة وهو الكائن المسيطر، ولم يشهد تاريخ البشرية أن سيطر كائن آخر على بقية المخلوقات مثله، وهذا في حد ذاته آية على أن التمكين كائن من عند الله عز وجل.

قد ينسى الإنسان ذلك التفضيل، فيظن في نفسه أنه متمكن ومسيطر من ذاته، فينسب ذلك التسخير إلى ما يمتلكه من قوة وذكاء، وقد ينسى أنه ليس له أن يستوي على غيره من الدواب فيسيطر بهذه الدرجة لولا فضل الله عليه، فجاءت هذه الآية حتى يبقى الإنسان ذاكرًا لمقامه نافيًا عن نفسه القدرة والامتياز من ذاته وإنما هو من عند الله، ونلحظ في هذه الآية المباركة تعايش الإنسان في معنى التسبيح في تفاصيل الحياة، وأن التسبيح معنى قبل أن يكون تلفظ.

الآية الأولى تذكر بنعمة الأنعام وأن الله عز وجل خلق منها ما يركبه الإنسان، أما الآية الثانية فبدأت بتذكير نعمة الاستواء ﴿ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ﴾، وفيه معنى التمكين والغلبة والقدرة والسيطرة، وكل هذه المعاني تبرز الإنسان كمفضل على بقية المخلوقات بما ينسجم مع وظيفته وخلافته لله على الأرض.

تكمل الآية بقولها: ﴿ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ﴾، وهي تشدد على ضرورة تذكر هذه النعمة كي لا يعتبرها الإنسان من المسلمات الطبيعية أو من حقوقه البدهية، بل هي في حقيقتها نعمة من نعم الله على البشر، ثم تنتقل الآية لتوجه الإنسان للتلفظ بالتسبيح بالعبارة الكريمة ﴿ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِين ﴾ وهنا يأتي التلفظ بالتسبيح بناءًا على تذكر الحقيقة حتى يعطي معناه العميق في النفي والإثبات، نفي بأن لا ميزة للإنسان بذاته ولا بذكاءه أو قدرته، وإنما هي عطاء من الله وحده، ولولاه لما استوى الإنسان هذا الاستواء، فهو سبحانه الذي سخر الأشياء للإنسان، ولاحول ولاقوة إلا بالله، ثم تختم الآية بقولها : ﴿ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾ لتذكره بميعاد المحاسبة على ما يفعله في الدنيا من خلال هذا التمكين، في إشارة ضمنية أن التمكين يُنسي الآخرة ويُغري الإنسان بالطغيان والابتعاد عن الحقيقة كما حدث لأصحاب الجنة في سورة القلم.

إذًا جاء التلفظ بالتسبيح بعد فهم المعنى من التذكر بكل تلك الحقائق الغيبية التي من الله بها على الإنسان في معرفتها، فهو كائن مسيطر على أساس تمكين من الله وحده.

خاتمة

توصلنا إلى أن التسبيح قبل أن يجري على الألسن بالألفاظ، لابد وأن يسبقه فهم المعنى من وراء هذا اللفظ، فالمؤمن لا يتلفظ بهذه الكلمة إلا وهو يختزن في قلبه معاني كثيرة تنفي عنه الكبر والرياء والعجب، وتثبت كامل القدرة ومطلق الملك لله وحده عز وجل. ولأن المؤمن قد يقع في ذلك بغفلة منه لذا كان وجوب دوام التسبيح، ودوامه يكون بالشعور قبل أن يكون بالتلفظ، وأول ما يجب على المؤمن أن يطهر قلبه منه هو اعتقاده في نفسه، فهو لا يملك شيء ولا يقدر مما كسب على شيء، ولا يدفع عن نفسه الضر ولا يجلب لنفسه المنفعة والقوة لله جميعًا.