مسار الوعي وحركة التغيير في القرآن الكريم
تعتني العلوم العامة بتفسير الظواهر من حولها ووصفها وصفاً دقيقاً لا تشوبه شائبة، ولكن ليس بالضرورة أن يكون لذلك الوصف أو أن يكون لذلك التفسير أي تأثير على قلب الإنسان وحركته ودافعيته نحو التغيير. بينما الوعي هو حالة من تنبه الإنسان إلى المصير وإدراك خطورة ماهو فيه أو ما هو مقبل عليه فيكون لذلك الخوف حضور في قلب الإنسان وتأثير على حركته. لذا فإن العلم والوعي يتحركان في مسارين مختلفين، وما يعنينا هنا هو أن نتحدث عن الوعي وعن تلك الحقائق التي إذا انكشفت للإنسان أحدثت له تغييراً حركياً وعقائدياً، لا العلوم الطبيعية التي تُحدث للإنسان انبهاراً علمياً بحتاً حين يتمكن من تفسير أو تطوير شيء ما.
الوعي هو حالة انتقال من نوم وغفلة عن الحقائق المصيرية إلى تأمل وسكون، وهذا الانتقال تحدثه صدمة معنوية فيها الشعور بالألم والخوف وإدراك ومعرفة للحقائق، ولا يكون الوعي حقيقياً ما لم يُحدِث تلك الدافعية وما لم يتبعه تغيير وحركة لإيجاد حل للمشكلة التي تنبه لها عقل الإنسان وضميره.
يطرح القرآن الكريم بعض الأسئلة التي تدور في مدار وعي الإنسان كي تحدث لديه اليقظة والتنبه، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الواقعة ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ﴾ الواقعة (68)-(70). أقرب الناس لاستيعاب هذه المعاني في قلبه هو الأقرب للشعور بالألم والخوف من تحقق هذا التهديد الرباني في تحول الماء إلى أجاج فعلاً، وإن حدث ذلك الشعور فإنه ينقل صاحبه إلى حالة التنبه وهي البحث عن الحقائق وطرح الأسئلة الجادة التي تعتني بحقيقة وجود الإنسان ومصيره.
الخوض في التفاصيل غالباً ما يكون سبباً في تغييب وعي الإنسان لأنه ينهك العقل في أسئلة تبعده عن أسئلة الكليات وتجنبه الخوض في الحقائق والأصول للمواضيع. نبي الله إبراهيم (ع) وهو في مقتبل حياته يطرح تلك الأسئلة التي لا تعتني بالتفاصيل وإنما تبحث في الكليات وتتفكر في مشروعية الشيء من أصله: ﴿ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾؟ الأنبياء (52)-(54)، ورغم أنه شاهد الأصنام منذ الصغر إلا أن تلك الألفة التي ألفها والهالة القدسية التي تحوم حولها لم تمنعه من أن يسأل في مشروعيتها وأصلها وحقيقتها. لم يسأل عن أي التماثيل أقرب وأيها أقوى لم يذهب للتفاصيل، ولكنه وقف عند الكليات ليسأل وبكل جرأة عن ماهيتها في الأصل؟
العلم البحت هو خوض في التفاصيل وسبر في أغوار دقائق الأمور. والسير في تلك الأغوار يغيّب وعي الإنسان حتماً عن الكليات وعن الأصول. تفاصيل العلم الدقيقة هي نتاج عقل، أما حالة استيعاب الكليات هي وعي يسكن في قلب الإنسان وضميره. لذا وجب أن يكون قلب الإنسان هو صاحب السيادة والقدرة على التوجيه، وعلى العقل أن يبقى أداة من أدوات الوعي وأن يستجيب لذلك القلب الذي يرشده أي التفاصيل تستحق البحث.
سؤال بني إسرائيل لنبي الله موسى : ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ البقرة(70)، هو سؤال في مستوى التفاصيل لكنه لم ينبع من وعي، وإنما من عقل استغرق في ذات الأمر وحيثياته وغاب قلب صاحبه عن الكلية الأصل وهو الامتثال لما يأمر به الله سبحانه وتعالى وحسب ﴿فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴾ البقرة(68). إن القضية هنا ليست: لون البقرة التي يجب أن تُذبح؟ إن القضية الكلية والأصل في الموضوع هو حس الاستجابة الفورية التي لا يعيقها ولا يشغلها النظر إلى التفاصيل ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ البقرة (71) ! يجب أن لا يُقدم العلم على الوعي، وأن لا ننشغل بتفاصيل العلوم قبل أن نعي حقيقة الأمر الذي نحن بصدده، وألا يكون نهم الإنسان للعلم وتفاصيله سبباً في غياب الإنسان عن الوعي.
في خمسينيات القرن الماضي، وفي خضم هياج الثورة العلمية لعلماء الفيزياء والفلك، أصدرت إحدى الدوريات العلمية عدداً كُتب على غلافه «لقد اكتشفنا الله»، وهذا التعبير تعبيرٌ علمي بحت لا يراعي القيم، فالإنسان المخلوق لا يستحق أن يعبر بهذا التعبير عن خالقه، وهذه العبارة أعطت تقديراً لعقل الإنسان ولم تراعِ قدر ذلك العقل أمام الله سبحانه وتعالى، ولو أدرك أولئك العلماء القيمة الحقيقية للإنسان لقالوا: «اكتشفنا أنفسنا»، وهو الاكتشاف الأحرى بالإنسان أن يعيه ويتنبه له، ولكن العلم إن هو انطلق بشكل مستقل عن قيم الإنسان العليا والكليات الأصل دفع صاحبه نحو الغرور والتعالي حتى أمام خالقه.
نشر المقال في جهينة الإخبارية بتاريخ 16 / 7 / 2013م