مدونة حلمي العلق

المطالبة بالبرهان

 | خواطر قرآنية

مقدمة

تحدثنا في الدرس السابق عن تعريف البرهان وقلنا بأن البرهان هو الدليل الذي لا يحتمل الخطأ، وفي الدين البرهان على العقائد هو القرآن الكريم أو الكتاب المنزل من عند الله سبحانه وتعالى، وقد تبين لنا أن القرآن يأمر المؤمن أن يتمسك بالبرهان تمسك المعتصم بالشيء، والاعتصام بالشيء لا يعني التمسك به فقط! بل يضاف إلى المسك به عدم التعلق بأي شيء آخر غيره.

كنا قد تحدثنا عن البرهان في الحلقة السابقة على أنه اسم من أسماء الآيات القرآنية، واليوم نتحدث وفي ذات السياق ولكن على أساس خلق وسلوك إيماني يربي فيه القرآن أتباعه وهو المطالبة بالبرهان. المؤمن يسير على بينة من دينه، فلا يخوض مع الخائضين ولا يقبل عقيدة دون مستند، وإذا فرضت عليه عقيدة طالب بالبرهان، لأنه مسؤول مسائل يوم القيامة.

هذا السلوك هو ذاته الذي أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمد (ص) في كتابه العزيز أن يسلكه مع الذين انحرفوا في عقائدهم من أهل الكتب السابقة، لقد أمر النبي بأن يطالبهم بالبرهان على ما يدّعون، فالمطالبة بالبرهان تدحض الدعاوى الباطلة وتعيد الحق إلى نصابه، نحاول أن نقترب من ذلك السلوك وذلك المعنى من خلال آية 111 من سورة البقرة.

المطالبة بالبرهان

يقول الله سبحانه وتعالى:

﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ سورة البقرة (111)

الآية الشريفة تتحدث عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين بالغوا في عقائدهم وساروا بالغلو، ووصلوا لدرجة أنهم يعتقدون ويروّجون أنه لن يدخل الجنة إلا من انتمى إليهم واعترف بعقائدهم المبتدعة، بدأت المشكلة مع اليهود ثم تكررت مع النصارى، وهذه العقيدة تتكرر كلما ابتعد الإنسان عن البرهان ولم يعتصم به، وقَبل بما هو دون البرهان كدليل في العقيدة والدين، والآية الشريفة توجه النبي محمد (ص) بطريقة التعامل والرد المناسب والأسلوب الدعوي السليم لنقض مثل هذه العقائد ، فتأمره بأن يطالبهم بالبرهان على دعواهم تلك.

1- هاتوا برهانكم

"قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"

"هاتوا برهانكم " قل يا محمد (ص) لمن ادعى في دينه هذه العقيدة "هاتوا برهانكم" هاتوا دليلكم القاطع الذي لا يحتمل الخطأ على ما تدعون؟ ومن أين يجب أن يأتوا بهذا البرهان؟ يجب أن يأتوا به كما بينت الآية (174) من سورة النساء والتي درسناها في الحلقة السابقة، من كتبهم السماوية، لأنه السلطان المنزل، وهو المهيمن الذي يحكم بما يشاء ويفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره.

"إن كنتم صادقين" مالم تأتوا بهذا البرهان فأنتم كاذبون في دعواكم هذه، لكنهم لا يملكون البرهان لأن الله لم ينزل شيئًا من ذلك في كتبه، ولقد ابتعدوا عن كتاب الله وانحازوا إلى أهوائهم وليس إلى الحقائق الربانية المنزلة، وعدم إتيانهم بالبرهان على هذا الادعاء هو حجة عليهم على بطلان ما هم عليه.

هكذا تنحرف الأمة عن كتابها، وتنسى الذكر ويتحول الذكر إلى مجرد رسم لا معنى له، فلا شيء من الواقع يطابق كلام الله، وترخص الجنة ويعيش المنتمي هذه الجماعة الأوهام بعيدًا عن حقائق الله المنزلة، أما الآية التالية لهذه الآية فتجيب على سؤال: من يستحق الأمن يوم القيامة؟ ومن يستحق الجنة؟ وماذا أنزل الله سبحانه وتعالى في هذا الشأن؟

2- الصدق من البرهان

يقول الله سبحانه وتعالى في الآية التالية للآية التي درسناها:

﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ سورة البقرة (112)

" بلى من أسلم وجهه لله" إن الحقيقة في نيل الجنة في إسلام الوجه لله، وهذه العبارة تحل محل المعتصم بالبرهان الرباني، فلأن الآية السابقة كشفت حقيقة أن لا برهان على ذلك الإدعاء، فهذا يعني أن من عمل بشيء معتمد من عند الله فله الجنة، وهنا تقول الآية من أسلم وجهه لله، ويمكن أن نقول أن من أسلم وجهه لله هو من اعتصم بالبرهان، وهو من اعتمد على كتب الله المنزله وآياته البينة لا من خالف حقائقه البينة. وإسلام الوجه لله هو خلوص الوجه هو سلامة الوجه كما نقول هذا الإنسان سليم من المرض فهو شفاء لا يشوبه المرض، وكذلك إسلام الوجه هو التوجه الخالص لله الذي لا يشوبه توجه لشيء آخر ولا لجهة أخرى، فلا ميل في قلبه لشيء غير كلام الله.

" وهو محسن " الإحسان صفة العمل، فإذا عمل أحد عملاً وأحسنه نقول عنه محسن، ولا يكون المحسن محسنًا بالإدعاء والشعارات، وفي هذه الكلمة إشارة إلى ما يناقض عقيدة الأمنيات التي وقع فيها أهل الكتاب الذين انحرفوا عن الجادة، وهو خلاف للتواني والتواكل والوقوف عند مبدأ أن الانتماء يكفي لدخول الجنة.

خلاصة :

يعلمنا الله عز وجل أن نتعلم هذا القرآن الكريم ثم نعتصم به، ونعتمده برهان، فهو إما أن يكون حجة للمؤمن أو أن يكون حجة عليه يوم القيامة، فإن اعتقد وعمل بما فيه أصبح القرآن الكريم حجته يوم القيامة، أما من خالف عقائد القرآن وشرائعه جاء القرآن حجة عليه يوم القيامة لأنه مال بوجهه لغير الله وانحاز لدليل غير برهان الله وغير حجته.