مدونة حلمي العلق

الكتاب والإخلاص

 | خواطر قرآنية

مقدمة

للإخلاص له علاقة بالملكية، فإذا امتلك أحد شيئًا لوحده وبلا شراكة مع أحد آخر نقول أنه خالص له، وبهذا المعنى خاطب الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب بقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ سورة البقرة (94)، وتعني إن كنتم تدعون أن الجنة لكم وحدكم لا يشارككم فيها أحد فتمنوا الموت. خلاص الشيء هو خلوه من الشوائب التي تشوبه أو تكدر صفاءه، وهكذا هم ينظرون إلى أن الجنة خالصة لهم لا يكدر صفوها أحد من غير طائفتهم، والله سبحانه وتعالى ينفي هذا المعتقد الباطل ويختبرهم في اختبار تمني الموت.

أما اخلاص العبودية، فتعني أن تكون كل أفعال العبد محصورة في تنفيذ أوامر سيد واحد، لا يشارك هذا العبد في الأمر والنهي أحد غير ذلك السيد الأوحد، وفي الدين، اخلاص العبودية لها علاقة بالكتاب المنزل والعبادة المخلصة، إذ أن الكتاب يمثل أوامر الرب وهو السيد الأوحد، وتوجه قلب هذا العبد المؤمن نحو هذا الكتاب وأخذ الأوامر منه وحده تمثل تلك العبادة المخلصة، أما إن استقبل هذا العبد أوامره من أكثر من جهة فقد تشاركت تلك الجهات في ملكية هذا العبد، لأنه يستجيب لأكثر من آمر، وينهى من قبل أكثر من ناهي، فلا يكون خالصًا لأي أحد منهم.

وعلى هذا يمكننا أن نفهم سر ارتباط الإخلاص بما أنزله الله من كتاب، كما تحدثت سورة الزمر في بدايتها، حلقة هذا اليوم تستعرض آيتين الأولى بداية سورة الزمر، والثانية الآية (139) من سورة البقرة كتطبيق لمفهوم الإخلاص وعلاقته بالكتاب.

الكتاب والإخلاص

﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)﴾

خلاص الشيء هو الحالة التي يكون فيها نقيًا مما يشوبه ويكدر صفاءه، والإخلاص في الدين ينتج من خلاص الأوامر، أي نقاءها من كل شائبة تشوبها، والذي يعني خلوها من أوامر أخرى ليست من عند الله، لذا فإن عبادة الله بالإخلاص تتأتى بوجود كتاب من عند الله، لأنه يحوي على أوامر الله الخالصة التي لا تشوبها شائبة، ولا تخالطها أوامر أخرى من عند غير الله فتكدر صفوها، إذ لا يشارك الله في أمره ونهيه في هذا الكتاب أحد، فإخلاص العمل لا يتحقق إلا بخلوص الأمر، وإذا توجه المؤمن إلى كتاب الله توجهًا خالصًا فهذا يعني أنه يثبت عمليًا أن لا موقع ولاخوف في قلبه ولا في نفسه إلا لله، ولا تديّن لأي أحد إلا لله سبحانه وتعالى، وبهذا يكون عبدًا مخلصًا لله، لا يشارك الله في ملكه أحد، وتكون العبادة خالصة لله.

الآية المباركة تقول :

1- ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)﴾

هذا الكتاب الذي هو بين أيدينا هو تنزيل من الله، وتأمل في هذا الحرف (من)، هذا القول قوله، هذه الأوامر أوامره، والنواهي هي نواهيه سبحانه، "العزيز الحكيم" أنزله وهو عزيز غني عن عباده، أنزله بحكمة ولحكمة. فمن يستطيع أن يأتي بمثل هذا الكتاب؟ لا أحد، ومن يستطيع أن يأتي بمثل هذا القول؟ لا أحد!

2- ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)﴾

" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق"

خطاب للنبي محمد (ص)، وهو الذي يستقبل هذه الرسالة الربانية، يقول له فيها سبحانه "إنا" وهي لفظ الإشارة الدالة على الله عز وجل، " أنزلنا إليك الكتاب بالحق"، مافي هذا الكتاب هو الحق، وما عدا ذلك الباطل، أنزله الله سبحانه وتعالى وأنزل فيه الحق الذي على أساسه يبنى دين الإنسان، والآية خطاب للنبي يتعداه لكل مؤمن يؤمن بهذا الكتاب.

" فاعبد الله مخلصًا له الدين"

جاءك في هذا الكتاب أمري ونهيي فكن عبدًا لي وحدي لا يشاركني فيك أحد، وكيف ذلك ياربي؟ لا تنفذ أمرًا غير ما أمرك به في هذا الكتاب، ولا تنتهي بنهي غير الذي أنهاك عنه في هذا لكتاب، فإن كنت كذلك وأعطيتني طاعة خالصة لا يكدرها ولا يشوبها طاعة أحد آخر، كنت عبدًا خالصًا لي، وإن فعلت ذلك فقد أخلصت لي الدين.

والآن ننتقل بهذا المفهوم وهذا المعنى لنطبقه على آية أخرى ذكرت الإخلاص وهي الآية (139) من سورة البقرة.

﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)﴾

"قل أتحاجوننا في الله"

المحاججة في الله هي المحاججة في الدين والأحكام والعقيدة، في ما أمر الله به وفي ما نهى عنه، ولأن المؤمنين بالرسالة بدأت أعمالهم الدينية تختلف عن الذين سبقوهم من أهل الكتاب، بدأ فريق منهم يجادلون الذين آمنوا، اعتراضًا على أن يكون الدين بهذه الصيغة، أو أن يكون الحكم المنزل في تلك القضية كما يفعلون، وعلى هذا الأساس ترد هذه الآية الشريفة، وكان هذا الأمر الرباني بتوجيه هذه الرسالة لأولئك الذين بدلًا من أن يستجيبوا لأوامر الله المنزلة في الكتاب المنزل، يجادلون المؤمنين في دينهم وفي تطبيقهم للدين، وكانت الرسالة لهم بصيغة سؤال استنكاري: أتحاجوننا في دين الله وفي أحكامه الله المنزلة..

" وهو ربنا وربكم "

وكلانا يدين بالربوبية لرب واحد، لمشرّع واحد ، وكلانا يؤمن بما أنزله الله، أنتم تؤمنون بالكتب السماوية ونحن نؤمن بالكتب السماوية على أساس تلك الربوبية.

" ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم "

ومع ذلك اختلفنا في الأعمال، أعمالنا الدينية اختلفت عن أعمالكم الدينية، فإذا كان الرب واحد، وتقرون بربوبيته، يجب أن تتطابق الأعمال، لأن الآمر واحد! ولكن كيف اختلفت؟ المسألة هي مسألة اختيار، فما نقوم به من عمل بناءاً على ما نفهمه من القرآن الكريم سنحاسب عليه، وما تقومون به من أعمال بناءًا على استجابتكم لأوامر أخرى غير الكتاب وستحاسبون عليه، وهذا الرد يحمل جانبين، الأول الرد السلمي الذي لا يحمل حالة التحدي والفرض على الآخر، والجانب الثاني يحمل حجة من عند الله عليهم في أنكم محاسبون، على هذا العمل الذي لم تخلصوا لله فيه، ولهذا تختم الآية بقوله تعالى:

" ونحن له مخلصون "

مخلصون له في الالتزام بالكتاب، وأنتم ترون وتقرون بأننا ملتزمون بما أنزل الله، مطبقون لما أمر به، ولا نزيد ولا ننقص مما أنزل الله شيء، ولكنكم تشهدون على أنفسكم أنكم غير ملتزمين بما أنزل الله، فلديكم محرمات غير التي حرمها الله، وعندكم أحكام ما أنزل الله بها من سلطان، ابتعدتم عن شرعه وعن أمره وعن نهية، وتقولون بربوبية الله، فكيف ذلك؟؟

الله سبحانه وتعالى في هذه الآية يأمر المؤمنين أن يعلنوا اخلاصهم لعبادة الله على أن اخلاصهم هذا ملموس من قبل الطوائف الأخرى، مشهود به، فهم يحرمون ما حرم الله، ويحللون ما حلل الله، أما الطوائف فهي تشهد على نفسها بأنها لا تطبق ما أنزل الله بالإخلاص، ولكن تطبقه بما يشوبه من الشوائب بالإضافة أو الإلغاء من أحكام الكتاب وعقائده.

خلاصة:

الإخلاص يكون بالالتزام بالكتاب، لأنه كتاب منزل من عند الله ولا يشوبه شائبة من غيره.