الميزان
| خواطر قرآنية# مقدمة
القرآن الكريم يحاسب على الكلمات التي تعبر عن عقائدنا والتي قد نمررها بسهولة ونظن أنها عادية، وللكلمات وللمعتقدات ميزان غيبي مثل الميزان المادي الذي نزن به الأشياء، فلكل شيء مقامه ولكل مقام قدر، والزيادة في القدر هو طغيان في الميزان، وأي إخلال في القدر هو خسران في الميزان والله سبحانه وتعالى يأمرنا بأن نقيم الوزن بالقسط وأن لا نخسر الميزان، في قضايا الغيب تماماً كما في عالم المادة مثل البيع والشراء.
﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)﴾
كثير من الانحرافات والعقائد التي جاء القرآن يناقشها ويدحضها انطلقت من أصل صحيح ولكن مع مرور الزمن انحرفت بسبب المبالغة وعدم التوازن، فبقيت المسميات فقط لكن انحرفت عن مضمونها، لقد جاء القرآن الكريم مصححاً لحقائق تمت المبالغة فيها وتسببت في انحراف الدين.
أحد تلك المبالغات (على سبيل المثال ) ما ظهر من معتقدات في شخصية نبي الله عيسى (ع)، إذ ادعى بعض متبعوه أنه ابن الله، والله سبحانه وتعالى يقول:﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5)﴾ سورة الكهف، ما الذي يجرئ الإنسان على قول كهذا؟ وكيف وصل في تصوراته إلى مثل هذا المعتقد؟ الكلمة كبيرة في حسابات الله سبحانه وتعالى، كبيرة في ميزان الغيب ولكن الذين اعتقدوا بها يقولونها وهم يعتقدون أنها الحقيقة الناصعة التي لا يمكن أن تكذب ؟ لماذا؟ لأنهم صغروا مقاماً عظيماً وهو مقام الله سبحانه وتعالى، ولم يقيموا الوزن الغيبي بالقسط.
حديثنا بعنوان الميزان، الميزان الذي بسبب غيابه تظهر كلمات غير موزونه مثل تلك التي قالها النصارى في حق عيسى (ع)، كلمة (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً (91)) سورة مريم، لكنهم لا يشعرون بها ؟ لأن الشيطان أفقدهم الميزان الذي يزنوا به كلماتهم ويزنوا به معتقداتهم تجاه الأشياء والشخصيات، فقدان الميزان هو أحد أهداف الشيطان الإجرامية في تمرير العقائد الباطلة التي يحاسب عليها الإنسان يوم القيامة.
# الميزان
يقول الله سبحانه وتعالى
﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾ سورة الشورى (17)
نزل القرآن الكريم بشيئين : الأول : هو الحق ، وهو حقائق غيبية تشمل الغيب الزماني والأحكام والعقائد، وكل تلك الغيبيات كانت محط تحريف من قبل أناس أنزل الله إليهم كتاب ولكنهم انحرفوا عنه، بالتفريط أو الإفراط. الثاني : هو الميزان، ما هو عمل الميزان في عالم المادة؟ عمل الميزان المادي هو أداة قياس للمساواة مع مقدار ، ويستخدم لإعطاء صاحب القدر حقه، أما الميزان الغيبي فهو يحرس الإنسان من الوقوع في الإفراط أو التفريط في المقادير، فكما يكون الميزان هو الأداة التي يقاس بها حق أحد فيطعى بقدر، كذلك في الدين فإن للمواضيع الغيبية موازين، ولكل موضوع مقدار يجب أن لا يزيد عليه، ولذا كان لابد من ظهور هذا العنوان الهام.
أحد المؤثرات التي تسحب الإنسان عن الحقيقة التي يريدها الله سبحانه وتعالى هو الشحن العاطفي تجاه قضية ما، وقد تنطلق الأمة من أساس صحيح ولكن الحشد العاطفي يزيحها وبالتدريج فيبقي القيم بمسمياتها ولكن تتبدل حقائقها مع مرور الزمن.
الشحن العاطفي يتسبب في الإفراط والتفريط لصالح جهة على حساب جهة أخرى، وبمعنى آخر فإنه يطغى أو يخسر في الميزان، وأي حقيقة بدون ميزان تنجرف عن أصلها، ونأخذ لذلك مثالاً في قضية عيسى (ع) وعلاقته بنبي الله إبراهيم .
# عيسى وإبراهيم
نبي الله إبراهيم هو أبو الأنبياء وإمام المسلمين، والذين اتبعوا عيسى (ع) حين بالغوا وأفرطوا في حبهم له، تجاوز ذلك الحب حدوده فنسف الموازين والمقايسس الطبيعية التي يمكن أن نفهم من خلالها الأشياء، فكان مما أدت له تلك المبالغة أن اعتقدوا أن إبراهيم (ع) كان نصرانياً أي تابع لعيسى، وبالأحرى هم يقصدون أنه مؤيد لطائفتهم ومؤسس للبدع التي أدخلوها في الدين ،وهذا الاستنتاج نابع من المبالغات، ولقد جاء القرآن الكريم ليصحح ويعيد الحقيقة :
﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ﴾ آل عمران (67)
وهذا الرد يذكر حقيقة نبي الله إبراهيم، والقرآن هنا نزل بالحق في حقيقته (ع)، أما إذا أردنا انموذجاً للميزان فيمكن أن نفهمه من الآية السابقة لهذه الآية في قوله تعالى :
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ آل عمران (65)
وهذا الرد هو رد بميزان ومقياس التاريخ هو ميزان عقلي يمكن أن يستوعبه أي إنسان لم يسكن الغلو قلبه ، والآية تعرض كيف أن هذه العقيدة مخالفة للمنطق الزماني وليس من المعقول أن الأب يكون تابعاً للابن الذي جاء من بعده بعشرات القرون، وأن التسلسل الزماني حاكم في هذه القضية.
# خلاصة:
الله سبحانه وتعالى أنزل علينا كثير من الحقائق التي يجب أن نعتقد بها، ووضع لنا كثير من الموازين التي على أساسها نزن بها أفكارنا، صحيح أن القرآن يتحدث عن أمم سابقة، ولكن إذا فهمنا القاعدة وتفهمنا الميزان يجب أن نصحح به أنفسنا أيضاً.
هذا في وزن القضايا التي تسير على شكل أفقي، أي بين رسول ورسول، أو بين شيء وآخر، أما في القضايا التي تسير في مقارنة مقامين بالشكل العمودي أي بين الله وبين الأشياء أو الرسل، فأمرها أمر آخر لأن الميزان هناك سيكون أكثر دقة وأكثر حساسية، نتحدث عنه في المرات القادمة إن شاء الله.