الرهبة
| خواطر قرآنية# مقدمة
فهم القرآن الكريم ونيل الهدى منه على المستوى الفردي لا يعتمد على المنزلة العلمية التي يتمتع بها الفرد وحسب، إذ أن هناك منزلة غيبية هي الأهم. ونعني بالمنزلة الغيبية هي المنزلة التي تسكنها النفس. هناك منزلتان غيبيتان رئيسيتان للنفس المنزلة الأولى هي منزلة الرهبة، أم الثانية فهي منزلة نقيضة لها وهي منزلة الطمأنينة، ولكل منزلة تأثيرها على قرارات الإنسان وطريقة تفكيره.
النفس التي ترهب من الله ليست كتلك التي تعيش الاطمئنان وضمان الجنة، فالرهبة تخلق عند الإنسان الرغبة وتوجد الموضوعية في البحث، والصدق في البحث عن الحقيقة، وعندما تنزل النفس في منزلة أقل من هذا تتلاعب بها الأهواء وتجبرها على مجانبة الصدق وتميل إلى ما ألفته، وتكره ما يخالف العادة والهوى.
لقد تحدثنا في الحلقة السابقة عن أحد أهم أسماء القرآن الكريم وهو الشفاء، وقلنا بأن هذا الشفاء يستهدف صدر الإنسان حيث يسكن فيه جزؤه الغيبي وهو النفس، وحين تصاب النفس بالمرض فإنها لا ترى الحقيقة بل قد تحاربها وتعمل على معاكستها والإضرار بها. ولنأخذ لذلك مثالاً مرض الحسد وهو من أشد الأمراض فتكاً في الدين وفي فهم الحقائق الربانية، فهذا الحسد يخلق دافعية مدمرة عند صاحبه، فيعمل على تدمير الجهة التي يحسدها للنيل منها وإسقاطها والإضرار بها بحيث لا تقوم لها قائمة.
# الحسد
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة في آية (109) :
﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ سورة البقرة (109)
لاحظ كيف يضر الحسد بصاحبه وخصوصاً في الدين، الآية الشريفة تقول "من بعد ما تبين لهم الحق" ، الحقيقة تبينت لهم ولكن هل اتبعوها ؟ لا ، هل تركوا من اتبعها في حاله؟ لا ، لماذا؟ حسداً من عند أنفسهم، الحسد خلق دافعية تدميرية تجاه الآخر الذي حظي بهذا الكرم الإلهي، إذ كيف يختار الله هذا النبي الأمي القرشي الهاشمي ولا يختارهم هم؟ وقد ظهرت صور هذا التدمير في أشكال عدة، منها ما برز على شكل إفساد في أحكام الدين، ومنها ما ظهر على صورة إبعاد الناس عن النبي، ومنها ما بلغ أشده فوصل إلى درجة المواجهة بالقتال، كل ذلك حسداً تجاه النبي والذين آمنوا معه.
وهنا نطرح تساؤل هذه الحلقة: هل المنزلة العلمية كافية لوحدها لنيل الهدى وفهم حقائق الكتاب؟من خلال هذه الآية نفهم أنها لا تكفي! لماذا؟ لأن النفس إذا لم تسكن في منزل الرهبة من الله فلن تتفعل الموضوعية والاستسلام للحقيقة، ومنزلة الرهبة تخلق دافعية إيجابية وتفرز الظواهر الحسنة في الإنسان تجاه حقائق الكتاب، ولقد خاطبت آيات القرآن أهل الكتاب وبني إسرائيل بالتحديد أن ارهبوا من الله، كما في آية (40) من سورة البقرة.
# الرهبة
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ سورة البقرة (40)
هؤلاء هم بنو إسرائيل الذين أنعم الله عليهم بنعمة إنزال الهدى والتوارة، لكنهم لم يوفوا بعهودهم مع الله، على الرغم من أنهم يتلون كتاب الله ويأمرون الناس بالبر لكنهم ينسون أنفسهم، والآية توصيهم بالرهبة من الله لأنهم لا يرهبون الله ولا يخافون منه، ولأنهم كذلك لم تتفعل الكلمات في صدروهم كما يريد الله، ولم توجد لديهم الدافعية للاستسلام لها، وعلى العكس، وجدت دافعية أخرى مصدرها النفس المريضة.
وما نتيجة هذه الرهبة من الله؟ نتيجتها تقديس الكلمة وتقديرها والخوف من عدم الاستسلام لها، وبدون هذه الرهبة تتحول هذه الكلمات النورانية إلى مجرد حروف عادية لا سلطة لها ولا ترهيب، ويتحول كتاب الله إلى مجرد كتاب، وقد تنافسه كتب أخرى وتزاحمه كلمات أخرى فتأخذ موقعها الأكبر في النفوس، لماذا؟ لأن النفس لم ترهب من الله، وهذا ما أوقع الذين من قبلنا من أهل الكتاب وبني إسرائيل بالتحديد في رفض دعوة النبي على الرغم من أنهم يرون حقيقتها.
# متطلب غيبي
إذاً في تدبر القرآن ومحاولة فهمه، نحن هنا أمام متطلب غيبي، وهو أن تنتقل هذه النفس من منزلة الطمأنينة تجاه هذه الكلمات إلى درجة الرهبة والخوف من تبعاتها والخشية من عدم تطبيقها، وأخذ جانب الحذر والخوف من الإعراض عنها، وفي إشارة واضحة إلى ضرورة هذا المطلب وإلى ضرورة تحقيق هذه المنزلة الغيبية تقول آية ( 154 ) من سورة الأعراف
﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾ سورة الأعراف (154)
تشير الآية كذلك أن ما يراد للمؤمن أن يأخذه من الكتاب هو الهدى والرحمة، وهي مشتقة من أسماء الله سبحانه وتعالى لأنه هو الهادي وهو الرحيم، و أن الهدى والرحمة تتنزلان على قلوب الذين يسكنون في منزلة الرهبة منه سبحانه وتعالى، هذه الرهبة توجد الدافعية الإيجابية الصحيحة، وحين يتحصل المؤمن على هذه المنزلة حينها فقط سيكون لمنزلته العلمية أثرها الحقيقي المطلوب منها، والعكس بالعكس، فالمنزلة العلمية ستتحول إلى وبال على صاحبها وقد يستخدم قدرته في تغيير الحقائق بدلاً من تبيينها وتوضيحها للناس إن لم يكن خائفاً من الله ومن عقابه " هدىً ورحمة للذين هم لربهم يرهبون".
علينا حين نتدبر القرآن الكريم أن نتلمس مدى اقترابنا من هذا الشعور، شعور الرهبة من الله، ويجب أن لا ننصرف إلى اتجاهات أخرى، وأن لا تتحول هذه الكلمات المقدسة إلى ساحة لإثبات الذات وإثبات المنزلة الدنيوية، فتلك المنازل الدنيوية هي التي حجبت الذين من قبلنا من نيل الهدى، فلا محيص من خلع النعلين وعدم الانشغال بمنازل الدنيا اللامعة من أجل الدخول في منزلة نفسية يرضاها الله عنا لننال رحمته وهداه والحمد لله رب العالمين.