مدونة حلمي العلق

اتباع الآباء

 | خواطر قرآنية

مقدمة

كان حديثنا في الدرس السابق عن الاقتداء بالأثر والذي يعني جعل الأثر في مرتبة المثال الذي يقتدى به، وقلنا أن المشكلة في الأثر ليس في وجوده، ولكن في اتخاذه قدوة، ووجدنا أن القرآن الكريم يستعرض حالات الأمم السابقة محذرًا الأمم اللاحقة من خطورة الوقوع في هذا الوهم، فإذا بلغ الأثر في أذهان أصحابه هذه الصورة المثالية فقد احتل مرتبة الكمال التي لا تحتمل الخطأ في فهم الدين، وهو بهذه المرتبة يحتل موقعًا هامًا لا يستأهله إلا كتاب سماوي، وإذا شُغِل هذا المنصب "المثالية" بشيء غير كتاب الله، كان ذلك عائقًا عن أخذ الكتاب السماوي بقوة، أو سببًا في تبعيض الكتاب، بالإيمان ببعض والكفر ببعض آخر، وهو بهذا أحد أهم عوائق اتباع ما أنزل الله.

عنوان درسنا هو اتباع الآباء وهو استكمال للدروس السابقة، وسيكون مقسمًا إلى قسمين: القسم الأول هو في الحديث عن الكتاب والآباء من خلال الآيات التي تناولناها في الحلقة السابقة والتي كانت بعنوان الاقتداء بالأثر وذلك بإضافة آية أخرى لم نتحدث عنها، أما القسم الثاني فهي في الحديث عن اتباع الآباء .

أولاً: الكتاب والآباء

﴿ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ۝ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾ لقمان (21) - (22)

الآية (21) من سورة الزخرف تختصر دعوى الرسل وهي المطالبة بالاستمساك بالكتاب، ليس مسك الكتاب أو التمسك به، بل الاستمساك به، كما قال الله سبحانه وتعالى في نفس السورة مخاطبًا نبيه الكريم (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)) أي تشبث واعتصم به بقوة، وهو أمر متكرر في أكثر من موضع في كتاب الله. وهذه الكلمة تشير إلى وجوب أخذ الدين من خلال تتبع ما أنزل الله وعدم التنازل عن شيء منه. الآية تتساءل عن عقيدتة أهل مكة المدعاة في الملائكة، هل هي مستنبطة من كتاب أنزله الله عليهم؟ فهم يسيرون على بيّنة منه من خلال استمساكهم به؟! والآية تقول "من قبله" إشارة إلى هذا الكتاب الذي هو بين أيديهم وهو القرآن الكريم، فالله لم ينزل عليهم قبل هذا الكتاب كتاب؟ فلم العناد؟ولأن السؤال استنكاري، فهي تقرر بأنهم يعتقدون دون الاعتماد على كتب الله السماوية!

أما الآية (22) فهي تختصر أحد أهم أسباب انحراف الأمم ورفض الاهتداء بالكتاب السماوي في مقابل الاهتداء بالأثر، وقد رأينا في الآية التالية وهي آية (23) مشكلة متكررة لدى كل الأمم وهي جعل الأثر في مرتبة القدوة والمثال وهي المرتبة العليا في اعتبار الانسان والتي يصغر أمامها مرتبة أي مصدر آخر من مصادر الهدى، وتبعاً لذلك لا يكون الكتاب المنزل مثالاً ولا قدوة يحتذى بها، فالقدوة بالنسبة لتلك الأمم تتجسد في ذلك الأثر فهو المثال والطريق نحو الهدى.

إن ما يجب أن يتصدر تلك المرتبة المثالية، هي كتب الله المنزلة وآياته البيّنة، فهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو الذي يبيّن حقيقة ما يريده الله، وليس غيره، ولكن ما الذي جعل هؤلاء القوم ينزلون غير ما أنزل الله هذه المرتبة؟ هذا ما نحاول أن نجيب عنه من خلال هذه الحلقة بعنوان قرآني آخر يكشف عمق المشكلة في النفوس وضرورة الاحتراز منها ، إنه التعصب المتجسد في اتباع الآباء.

التعصب الأعمى يحول دون تفكير الإنسان في الحقيقة فلا يأخذ بها ولكنه يبقى على ما كان عليه من خطأ وضلال ويستمر ويواصل عليه تعصباً، هذا التعصب يعطّل الأخذ بكتاب الله ويعطّل تطبيقه أيضًا أو الأخذ به بقوة. وغالبًا ما يقف هذا التعصب مانعاً من اتباع ما أنزل الله.

في هتين الآيتين من سورة الزخرف تتجسد المشكلة المتكررة عبر الرسالات بين ما أنزل الله وبين آثار الآباء. إن ما يُعلي ذلك الأثر في نفوس تلك الأقوام على كلام الله هو اشتعال نار الحمية للآباء في النفوس، والسعي لتزكية كل ما هو منسوب لهم. ولقد سعى القرآن الكريم لإيقاظ ضمير تلك الأقوام وإصلاح النفوس وإيضاح العاقبة وأعادتهم إلى الرشد وإقامة الحجة عليهم، نستعرض مشكلة اتباع الآباء من خلال آية (21) من سورة لقمان.

ثانيًا: اتباع الآباء

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة لقمان

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ لقمان (21)

في الآية الشريفة اتجاهين، الاتجاه الأول هو اتجاه "ما أنزل الله" أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه " الآباء"، هذه الآية ومثيلاتها تخوف الإنسان من التعصب والتحيّز للآباء، وتعطي حقيقة من أجل إيقاظ الضمير، وتصحيح المسار، ولقد بينت خطورة إصرار هؤلاء القوم على ما وجدوا عليه آباءهم،فالآية تقول لمن يرفض دعوى اتجاه ما أنزل الله واتجه إلى ما وجد عليه آباءه: ألا تخشى أن يستدرجك الشيطان من هذا الاتجاه إلى عذاب السعير؟

في الآية الشريفة ثلاث مقاطع مهمة:

1- دعوى الرسل

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ ﴾

لا شك في أن هذه هي دعوى الأنبياء والرسل، في الاستمساك بما أنزل الله، وهي توضح في مضمونها أن تلك الأمم كانت تبتعد عن كتبها تدريجيًا، حتى يأتي رسول لينذر الناس من ذلك الابتعاد. وهي حالة عامة تتكرر على مدى العصور والأزمان.

2- حمية الآباء

﴿ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾

وكذلك هذا الرد هو رد متكرر، وفي هذا الرد تبرز مشكلة اتباع الآباء، فتغيير ما كان عليه الآباء يعني الاعتراف بخطأ ما كانوا عليه، وهذا ما لا يرتضيه المتعصب، والذي اتخذ الدين على أنه امتياز رباني له ولقومه وللذرية التي جاءت من بعد أولئك الأولين. وهذا التعصب هو الذي يجعل من ذلك الأثر قدوة يهتدى بها، ويستغنى بها عن ما أنزل الله، حتى وإن تضمّن ما يخالف لما أنزل الله.

3- كشف وتحذير

﴿ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾

الشيطان يسعى للإفساد ويسعى لتغيير الدين من أجل إسقاط مشروع الرسالات فهذا هو مشروعه الذي وعد الله في تنفيذه وهو أن يقعد للناس صراطه المستقيم وأن يبعدهم عن نهجه القويم المتمثل في رسالته، وهو لن يدع فرصة إلا ويقوم باستغلالها من أجل التفريق والتغيير والتخريب والإفساد في الدين.

الآية تقول بأن الشيطان يدعو، يدعو من خلال أي اتجاه؟ ومن أين يستطيع الشيطان النفاذ والإفساد؟ هل يستطيع أن ينفذ من خلال ما أنزل الله؟ لا؟ لكنه يستطيع أن ينفذ ويتسلل من خلال التعصب للآباء، من خلال ما وجدوا عليه آباءهم. لا يستطيع الشيطان الرجيم أن يغيّر أو يبدل كلمات الله، ولكنه يستطيع ذلك مع غيره، لأنه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، ولأنه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

الشيطان إذًا هو من يعزز الحمية ويشعلها لأنه المستفيد منها، وحتى تكون الغلبة للأثر على ما أنزل الله، لماذا؟ إذًا من خلال هذا الكشف لهذه الحقيقة يمكن لنا أن نأخذ التحذير الرباني من الآية وهو أن الشيطان يكمن في هذا الاتجاه، وأن ما يخبئه الشيطان في هذا الاتجاه مدعاة للوقوع في عذاب السعير.

اللهم إنا نعوذ بك من ملكة الحمية وغلبة الهوى وإيثار الباطل على الحق، وأعوذ بك من ذلك كله والمؤمنين برحمتك يا أرحم الراحمين.