مدونة حلمي العلق

الاقتداء بالأثر

 | خواطر قرآنية

مقدمة

الدين هو تطبيق نص لا تطابق صورة من خلال تطبيق ما أنزل الله لا بتتبع أو اقتفاء أثر، وتطبيق هذا النص المقدس يحتاج إلى تروٍ وتعقل وتفكير أما اتباع الأثر فلا يحتاج إلا للمحاكاة التي قد تخلو من التفهم لما يتم محاكاته، العبودية الخالصة لله تتجسد في إسلام الوجه لله في التوجه لبراهينه الكافية وبيناته الساطعة وسلطانه المبين.

حجة الله على الإنسان تقوم يوم القيامة على أساس الآيات المنزلة:﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)﴾ سورة المؤمنون، ولقد ارتهننا هذا الكتاب العزيز ولا يمكن الفكاك من رهانه فلا بد من الإيمان به جملة وتفصيلاً وتطبييقا.

هذا الدرس بعنوان الاقتداء بالأثر، وهو استكمال لموضوع الأثر وتتبعه، لقد تبين لنا أن الله سبحانه وتعالى قد حذّر الأمم السابقة من الأثر آمرًا إياهم الأخذ بحقيقة ما أنزل الله دون تبعيضه بسبب وجود أثر الآباء، وقد يؤخذ بما في الأثر لأنه أنموذج ومثال يهتدى أو يقتدى به، ولكن الله سبحانه وتعالى حذّر الأمم السابقة أيضًا من أن تكون هذه العناوين مبررًا للأخذ بشيء قد يخالف ما أنزل الله، فلا يؤخذ الأثر مثالًا يهتدى به على حساب تضييع شيء مما أنزل الله.

وتبيّن لنا الآيات الشريفة أن السيرة التي يرتضيها الله لنا هي أن نستمع القول فنتبع أحسنه، أن نتأمل للبحث عن الأهدى، من خلال عقد المقارنة الموضوعية للحقائق. نحاول أن نتعرف على هذه السيرة من خلال استعراض آيات من سورة الزخرف، من آية (22) إلى آية (25).

الاقتداء بالأثر

﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ۝ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ۝ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ الزخرف (22)-(25)

هذه الآيات تتحدث عن قوم النبي محمد من أهل مكة الذين كانوا يعبدون الأصنام على أساس أنهم شفعاء لله لأنهم بنات الله ( تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرا)، وأهل مكة من المفترض أن يكونوا موحدين وأتباع لملة إبراهيم. تقول الآيات الشريفة :

**1- ﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)﴾ **

الآية تتحدث عن مضمون ما قاله الكفار من مشركي مكة حين يخاطبهم الرسول ويطلب منهم أن يعودوا إلى أمر الله في كتبه المنزلة وإلى ملة إبراهيم عن اتباعهم عقيدة الاستشفاع بالملائكة، يقولون أننا وجدنا آباءنا على أمة، أي أن من سبقنا ممن ننتمي إليهم اجتمعوا على هذا الأمر وعلى هذه العقيدة فلا يوجد أحد منهم يخالفها، لذا فنحن نواصل ما ساروا عليه، ونأخذ بآثارهم لأنها مثال يحتذى به للهداية، نأخذ بآثارهم حتى نهتدي لما يريده الله منا. وهذا الحديث نابع من شعورهم بالمسؤولية أمام ملة آباءهم و أنهم يحملون أمانة ذلك الأثر وتلك العقيدة و ما وجدوا عليه آباءهم، والله سبحانه وتعالى يريد منهم أن يتحملوا مسؤولية أنفسهم أمام الله وأمام ملة إبراهيم وما أنزله الله في صحف إبراهيم وموسى، فهي التي تحمل الهداية التي يرومونها.

2- **﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)﴾ **

الآية التالية تخاطب نبي الرحمة محمد (ص) مبينة أن هذا هو ديدن الأمم السابقة، وتخبر عن القاعدة العامة التي على أساسها كفر السابقون برسالة الرسل، تماماً كما تحدثت الآية في سورة الصافات في موضوع الأثر حين قالت: "ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين" فهي مشكلة متكررة عبر القرون، وهذه الآية الشريفة تبيّن أن هذه المشكلة هي مشكلة متكررة في الأمم حين يواجهها الرسول بأخطاءها وابتعادها عن المنهج الرباني في كتبه المنزلة، وأن الرد هو ذات الرد في كل الأمم: " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون"، هذا الأثر هو المثال الذي يمكن أن يقتدى به، هو قدوتنا ،وأن من سبقنا من آباءنا في هذا الدين هم قدوتنا وعلينا أن نواصل مابدأوه اقتداءًا، وهذا إصرار على ما وجدوا عليه آباءهم تعززاً بهذا الانتماء وتعززاً بالطائفة، وهو من جهة أخرى يعد استهانة بما أنزل الله.

ومرة أخرى يأتي التأكيد على أن مطلب الأنبياء هو أن يعود الناس إلى كتاب الله وإلى ما أنزل الله على أساس من التفكر والتأمل لا على أساس من العصبية، وهذا ما تشير له الآيات التالية:

3- ﴿ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)﴾

هذا هو قول الرسول في كل أمة من الأمم السابقة: " أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم" ؟ وماذا يحمل هذا القول؟ هذا هو مطلب الرسالة الربانية هو المقارنة بين الأثر وبين ما أنزل الله، وهذا هو مطلب البحث والتدقيق عن الحقيقة، الرسول يدعوهم للمقارنة من أجل استنقاذهم من عذاب الله وسخطه، في حين هم يرونه خارج عن دينهم ومفسدٌ لملتهم. وكلمة "أهدى" صيغة مقارنة بين شيئين، وعقد المقارنة يحتاج لتفكير موضوعي حتى يتم التبين من أن هذا القول هو أهدى. إذًا من سيتبع الرسول؟ من الذي سيكون من أتباع الرسول؟ هل هم أولئك الذين جعلوا من آثارهم قدوة؟ أم الذين تفكروا في أي من القولين هو أهدى وأقرب للتقوى؟

والرسول لا يسأل بسؤال الهداية هذا : "أهدى" إلا لأنه يعلم أن من يعمل عقله ويعود إلى الله سيكون حتماً من أتباع ما أنزل الله، وعلى هذا وجد للرسول أتباع وللدين مؤمنون على أساس الاقتداء بالأهدى لا أساس الاقتداء بالأُثر، على أساس الاقتداء بالأهدى المنسجم مع فطرة الإنسان والمحرك للتعقل والتفكير، لا المخالف للفطرة الإنسانية والمجمد للتفكير والعقول والذي يحول الإنسان إلى نسخة تحاكي من سبقها فقط دون أن تعمل هذا العقل وهذا التفكر.

أما عن رد تلك الأمم عبر الرسالات فكان أنهم قالوا : " إنا بما أرسلتم به كافرون" ، وهذا هو الرد المقفل، فكلمات الرسول لم تخترق حجب القلوب الصلدة، ونتيجة هذه الحالة هي ما أتت به الآية التالية :

**4- ﴿ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)﴾ **

انظر ياقارئ القرآن، انظر أيها المتدبر كيف كان عاقبة المكذبين الذين كذبوا بحقائق هذا الكتاب.

خلاصة

يبنى الدين على أساس من البصيرة التي تقود إلى السلم، لا على أساس العمى الذي يقود للعصبية، وكل الرسالات التي وجد لها مؤمنون وأنصار ومتبعون، إنما آمنوا بها لأنهم خاضوا معركة التفكير ، وعقدوا المقارنة الموضوعية التي تقود إلى الأهدى، إنما آمنوا واستحقوا كلمة " المؤمنون" لأنهم تأملوا وفكروا وعقدوا مقارنة الأهدى. والآية الأخيرة (آية الانتقام) ليست آية تتحدث عن نتيجة حدثت لأمم سابقة فقط، إنها إنذار إلهي مستمر لكل من يبتعد عن آياته البينات بسبب العصبية " فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين" لقد كذبوا الحقيقة الجلية البينة، لقد كذبوا برسالة السماء، لم يقدروها حق قدرها فكانوا بذلك يستحقون الانتقام الإلهي على تكذيبهم رسالته.