مدونة حلمي العلق

عهد الله

 | خواطر قرآنية

مقدمة

كان الحديث في الحلقة السابقة عن أحد مسميات القرآن الكريم الهامة وهي الفرقان، ومن خلال هذا المسمى نفهم أن القرآن الكريم قادر على أن يكون أداة تفريق بين الحق والباطل بالنسبة للمؤمن والذي اعتبره بهذا الاعتبار، وإن الالتفات لهذه المسميات يعطي القرآن موقعه الحقيقي في قلب المؤمن، على أنه كتاب غير عاجز من أن ينير درب المؤمن أو أن يفصل له بين الأمور المتشابهة.

هناك نوعين من قراءة القرآن، قراءة السائح الذي ينظر إلى ما في هذا الكتاب من قصص وعبر وأحكام ومواعظ نظر المتفرج، الذي لا يخشى تهديده ووعيده، ولا يأنس بذكر بجنته ووعوده، أما القراءة الثانية فهي قراءة الخائف الذي يبحث له عن مأمن، فيستظل تحت فيئه ويلجأ له لجأ الخائف المتحير، أتباع القرآن لا يسيحوا في آياته سياحة المتفرجين، لكنهم يعيشون وعده ووعيده،تربطهم بالقرآن أشد الروابط وأقواها، تلك المبنية على الوعد وتصديقه والمضي على أساسه.

اليوم نضيف إلى قائمة مسميات القرآن الكريم مسمىً آخر لا يقل أهمية عما سبقه من المسميات، وهو (عهد الله)، والعهد هو أحد مسميات الروابط القوية التي تربط بين من وعد وما وعده به، والمؤمن بهذا الكتاب مرتبط به بما يجعله لا يبتعد عنه ولا ينفلت منه، وهذه الرابطة قوية بدرجة يسميها القرآن الكريم بالميثاق.

وعد الله الذي وعد الله به المؤمنين في الكتاب هو عهد الله لنا، ووعد المؤمن بالاستجابة لهذا الكتاب وتطبيق مافيه وعدم الانحراف عنه لغيره هو عهدنا إلى الله، وبهذين العهدين تكونت الرابطة وتكون الميثاق بيننا وبين هذا الكتاب، ندرس كيف استخدم القرآن الكريم لهذا المسمى الهام، وكيف اعتبرنا معاهدين، ثم نستعرض آية من آيات الميثاق التي يجب أن نمر عليها بوعي وأن لا نمر عليه الذي لا يعنيه ما يقال.

عهد الله

أحد مسميات التوراة هو العهد القديم، كونه هو الكتاب الأقدم ، أما الإنجيل فيسمى بالعهد الجديد، وهذا المسمى ليس خاصًا بمعنى أنه لا يسمى به أي كتاب آخر، ولكن المسمى نابع من طبيعة علاقة المؤمن بكتابه المنزل، وقد كانت إحدى عادات المؤمنين بتلك الكتب السابقة أن يوثقوا وصايا ملة إبراهيم العشر على سواعدهم ويكتبوها على مداخل أبوابهم دلالة على شدة الإرتباط بعهود الملة والكتاب، يقول الله سبحانه وتعالى مخاطبًا بني إسرائيل في سورة البقرة:

﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ البقرة (40)

نركز في هذه الآية الكريمة على ثلاث كلمات هامة، الأولى نعمتي : والتي تعني نعمة الله بإنزال هذا الكتاب، فالكتاب من أكبر النعم التي يمن الله بها على المؤمنين. أما الثانية فهي قوله تعالى: عهدي، والتي تشير إلى التوراة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى إليهم، أما الكلمة الثالثة فهي الوفاء، والتي تستخدم عند تطبيق العهود، فنقول أن هذا الإنسان وفّى بعهده ولم ينقص من وعده شيئًا.

وعلينا أن نعلم نحن أتباع القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى يريد منا أن نرتبط بالقرآن الكريم كما طالب الأمم السابقة التي أنزل الله عليها كتاب سماوي، وهذا ما تؤكده آية (7) من سورة المائدة.

صيغة العهد

ماذا نقصد حين نقول بأننا أخذنا على أحد عهدًا؟ يعني أننا أخذنا عليه وعدًا مشددًا أن يلتزم بما نطالبه به ولا ينسى ذلك الوعد، فالعهد هو وعد مشدد، والعهد المشدد ميثاق، والميثاق المشدد هو ميثاق غليظ، والميثاق الغليظ هو الذي لا يتوقع فتله أو قطعه. ونقف هنا أمام نص يمكن أن نقول عنه أنه صيغة العهد بيننا وبين الله سبحانه وتعالى، وصيغة العهد كلمتين هما : "سمعنا وأطعنا" ، كما نراه في آية (285) من سورة البقرة:

﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ البقرة (285)

هي كلمة يقولها المؤمنون بهذا الكتاب : "سمعنا" : سمعوا ماذا؟ سمعوا كلام الله، سمعوا كلام الله واستوعبوه، ةأدركوا خطورته ، وقولهم : " وأطعنا " أطاعوا ماذا؟ أطاعوا ما أمر الله به ، وهذا وعد مشدد بالطاعة، إذ أن المؤمنين لم يقولوا سنطيع بصيغة المستقبل، بل قالوا "أطعنا" بصيغة الماضي، وهو تشديد بالوعد الذي يجعل منه عهدًا أمام الله.

مشكلتنا مع هذه الآية والقرآن عموماً، هي أننا نقف أمامه متفرجين، فنشاهد في هذه الآية المؤمنين وهم يعاهدون الله وننسى أنفسنا، معتبرين أن ذلك مشهد قد مضى في التاريخ ولا يتكرر مع كل مؤمن بهذا الكتاب، وتأكيدًا على أن هتين الكلمتين هما عهد المؤمن إلى الله، نعرض الآية (7) من سورة المائدة

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة الآية (7)

﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ المائدة (7)

كيف أخذ الميثاق على المؤمنين؟ حين قالوا "سمعنا وأطعنا"؟ إذًا هذه العبارة هي بمثابة عهد يوثق المؤمن من خلاله علاقته بالكتاب إلى أعلى مستويات الروابط. ويلازم العهد التذكر ، فنقول نتعاهد الشيء، في إشارة إلى مداومة تذكره وإحياءه، ولذا بدأت الآية بقوله تعالى " واذكروا " ، لا تنسوه تذاكروه تعاهدوه، ولا تنسوا أنكم قلتم لله يومًا "سمعنا وأطعنا" ،

ونلحظ كذلك في هذه الآية كلمة النعمة والتي تشير إلى نعمة إنزال الهدى، وخصوصًا أن هذه الآية جاءت بعد آية " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"، فهي تؤكد على نعمة إنزال الحق والإسلام، فالنعمة هي نعمة الكتاب، وتمام إنزاله.

خلاصة :

يجب أن نعي كلمات القرآن الكريم كمؤمنين لا كمتفرجين لما كان يفعله المؤمنون الأوائل ونكتفي بهذا، فحين نمر على هذه الآية وفيها "سمعنا وأطعنا" علينا أن ندرك أهمية وخطورة هذه الكلمة التي لا يمكن أن ننلفت عنها، وأننا بهذه العبارة نعاهد الله على الالتزام بكتابه.

تلهمنا هذه العبارة كيف نستلم هذا الكتاب، نستلمه كعهد، وتلهمنا أيضًا إلى كيف نسلمه للجيل اللاحق، فالطفل حين يصل سن التكليف، ونقيم له حفل بهذه المناسبة ونشعره بأنه بلغ سن يكون فيه محاسب أمام الله، علينا أن نسلمه القرآن الكريم كعهد بينه وبين الله، وأنه حين يقرأ ( سمعنا وأطعنا ) فقد أبرم عهده أمام الله سبحانه وتعالى، على الإيمان به والالتزام بما نزل به.