الشفاء
| خواطر قرآنية# مقدمة
لا يكفي لحل المعضلات الفكرية والانحرافات العقائدية طرح الأفكار السليمة والصحيحة وحسب، لو كان ذلك كافياً في تغيير الإنسان لنجحت كل حركات الرسل ودعواتهم، ولكن الواقع وسيرة الأنبياء والرسل والمصلحين تشهد على أن المنطق والفكر والعقل وحدة لا يغير الإنسان.
نظن أن آراؤنا وأفكارنا هي نتاج استنتاجات منطقية مستندة إلى قوانين لا يمكن أن تتهاوى أو تسقط، وقد نظن أنه يمكن بالأدلة وحدها أن يغير الإنسان معتقده أو توجهه، ولكن الواقع يقول أن الحقيقة وحدها لا تكفي لإقناع الإنسان لكي يغير توجهاته ومعتقداته، فالحقيقة وحدها تخاطب العقل، والعقل جزء من المشكلة ولكن ليس كلها، ولكن هناك جزء آخر يبدو أن له الأثر الأكبر في عملية تغير الإنسان وتبدل توجهاته، وهو الجانب الغيبي منه.
القرآن الكريم لا يغذي الجانب العقلي من الإنسان فحسب، إنه يستهدف ذلك الجزء الغيبي من الإنسان، بل إنه يخاطب جانب آخر هو الأهم وهو منشأ الإصلاحات ومنطلق الانحرافات والتوجهات المختلفة، إنه يخاطب القلب ويخاطب النفس، وما يكنه المرء في صدره هو في حقيقته منشأ ومنطلق كثير من أفكاره وتوجهاته وأفعاله، وإن بدت في شكلها النهائي منطقية أو صيغت بصورة عقلانية.
القرآن الكريم ليس كأي كتاب، بل هو يختلف عن الكتب الفكرية التي تنتنصر لتوجهاتها وآراؤها والتي تناقش ما تذهب إليه من رأي ومن فكر ومن توجه من خلال الاستدلالات العقلية البحتة فتسرد الأدلة والبراهين لإثبات رؤيتها، القرآن الكريم حين يحاور الذين لا يستجيبون له، لا يحاروهم بالعقل فقط، بل يعالج منشأ تلك المشكلة وأصلها التي تسكن في الصدور، هنا حيث يسكن الجزء الغيبي منه.
الشفاء واحد من أهم أسماء القرآن، والآيات الشريفة تصفه أنه شفاء لما في الصدور، والشيطان اللعين الرجيم حين يريد استهداف الإنسان يوسوس له في صدره،فيخلف بوساوسه تلك الضيق والدمار والأحاسيس الباطلة التي تُنبت الأفكار الهدامة والمنحرفة، والقرآن الكريم حين يعالج الإنسان الساعي والراغب في الهداية يبدأ بعلاج ما في الصدور، فيهذب النفس وينقي القلب، وعندما يقول القرآن أنه شفاء لما في الصدور، فهو شفاء لهذين العنصرين الهامين.
لقد تبين من خلال الحلقة السابقة أن الكراهية وهي التي منشأها النفس تؤثر في استقبال الهدى، وأن الأمراض النفسية مثل الحسد والغل تغير توجه الإنسان كما قالت الآية الشريفة " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم حسداً من عند أنفسهم " فوجود هذا المرض يغير بوصلة التفكير ، والحقد يجبر صاحبه أن يفكر بطريقة وفي مسار محدد، وبناءً على ذلك المسار فهو يبحث عن دليلة ليثبت صحة مكانته وليخطيء من يخالفه.
﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ البقرة (109)
# الشفاء
يقول الله سبحانه وتعالى في آية (57) في سورة يونس:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ سورة يونس (57) - (58)
توجه الآية الخطاب للناس كل الناس كإعلان مفرح ومبهج وكبشرى يجب أن تسر من يسمعها أن يا أيها الناس جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور ، وإذا كانت هذه الكلمات شفاء لما في الصدور ، فبدونها تكون الصدور بلا شفاء مريضة معتلة، ونتيجة لعلة الصدور تكون النتائج معلولة ومريضة أيضاً.
وقد نستخدم في تعبيراتنا الدارجة تعبير " الإجابة الشافية" فإذا حصل على إجابة مقنعة اعتبرها إجابة شافية لأنها تشفي ما في صدره من إلحاح لمعرفة الحقيقة، بما ينسجم مع ما يحتاجه هذا الصدر من وضوح وجلاء، هذا على مستوى الأسئلة الدنيوية، ولكن حين نتحدث عن أسئلة الغيب فالإنسان بلا إجابة لأسئلته الفطرية الكبرى يكون مريضاً معلولاً، وحين لا يعالج نفسه على أساس تلك الحقائق يبتعد عن حقيقة تكوينه ووجوده في هذه الدنيا فتكون النفس والقلب متعبين مريضين، ونتيجة لذلك المرض فإن رؤيته للأفكار والحياة تتغير.
# الفرح
الآية توجه القول للناس عموم الناس أن افرحوا بهذا التنزيل وبهذه الآيات وبهذا الكتاب أكثر من فرحكم من أي شيء آخر، فهو خير من كل ما يجمع في هذه الدنيا، هنا الفرح الحقيقي لأنكم إذا كنتم تفرحون لما تجمعون في هذه الدنيا في شتى أمورها، فخالق الكون نفسه يقول لكم الحقيقة أن في هذا القرآن ما هو خير مما يجمع في هذه الدنيا. تعالوا هنا وافرحوا، تعالوا هنا لأن هذا هو الشفاء هنا هو الخير كل الخير.
# التأثير
ما تأثير هذا العلاج الرباني على الإنسان، هو سهولة قبوله للحقيقة وانسجامه معها، فأفكاره ومنطقه وبناءاته الفكرية جذورها ممتدة لما هو متواجد في هذا الصدر، وبهذا يمكن أن نقرأ الآية التالية فهي تتحدث عن الحلية والحرمة، ولكي نفهم هذا وارتباطه مع هذه الآية فهما يسيران في هذا المسار في الحديث عن إصلاح الانحرافات في الأحكام والعقائد، من خلال هذا الشفاء .
الآية التالية تقول:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ﴾ سورة يونس (59)-(60)
تناقش الآية موضوع تبديل الأحكام، أحكام غيّرت وبدّلت، أحكام في الحلال والحرام، فالمخاطبون تدخلوا في الدين، بحيث أنهم حللوا وحرموا على أهوائهم دون أن يرجعوا إلى كتابهم ودون أن يأذن الله لهم، وهذه المواقف التي تعرضها الآيات يتداخل فيها الجدال والإثباتات العقلية التي يمكن أن يستدل بها أولئك على مواقفهم، هم يجادلون النبي ولا ينصاعون له، والمشكلة في عدم تقبلهم للحقيقة ليست عقلية فقط، فجذورها في أن صدروهم مملوءة بكبر ما هم ببالغيه، ولو أنهم اقتربوا من القرآن الكريم اقتراب من يريد أن يتشافى من مرضه ومن علله التي في صدره لاختصر المسافة ولأمكنه بأقل الكلام وبأول برهان سماوي أن ينصاع ويصدق ما يقوله له الرسول، ولكن المشكلة أن هذا المعاند لم يشافي هذا الصدر.
# التطبيق
إذا كنا نريد أن ننهل من علوم هذا القرآن وأن نستسلم له وأن نختصر المسافات في فهمه وأن نقلل الكثير من الجدال والمحاجات العقلية علينا أن ندخل في هذا المشفى دخول من يرغب في التشافي وأن لاندخل له دخول المتعالي عن الاعتراف بمرضه، والباحث في مرض غيره، والمنشغل بعيوب الآخرين عن عيبه ، لأن الآية الشريفة تقول أنه شفاء لما في الصدور ، ولا زكاة لأحد .
اللهم اجعلنا ممن يعترف بخطأه وبنقصه أمام هذا الكتاب، ومن يرغب في تغيير نفسه إلى ما تريد خوفا وخشية من لقائك والحمد لله رب العالمين.