مدونة حلمي العلق

التواضع للعلم

 | خواطر قرآنية

مقدمة

عندما نقرأ القرآن أو نستمع له نستمعه بتواضع، أو بعبارة أكثر دقة، نضع أنفسنا في الموقع الصحيح، وما هو موقعنا الصحيح بالنسبة للقرآن؟ هو موضع العبد أمام السيد، القرآن سيد ونحن عبيد.

وعندما يتقدم أحدنا لتذكيرنا بآية من آيات القرآن علينا أن نتواضع لهذا التذكير، لأنه يذكر من القرآن، والمقام مقام قرآن أمام مستمعين معتبرين به، فلا مجال للنظر لذات الشخص ومكانته ومقامه، مهما صغر هذا الشخص أو كبر ومهما كان مقامه، فنحن أمام مقام القرآن وحين نتذاكر بالقرآن لا مراتب ولا ميزات للأشخاص، الميزة هي للقرآن فقط.

التواضع للعلم

التواضع للعلم سمة أخلاقية يتحلى بها متعلم القرآن، دون ربط بمقام القائل، فقد تصدر الحقيقة أو ينبع الفهم من أصغر القوم بدلاً من أكبرهم، ولا يضير المؤمن المتبع للحقيقة حينئذٍ أن يتبع تلك الحقيقة أو أن يستجيب لها، لأنه الباحث عن الحكمة. هذا لا يمنع أن يكون هناك معلمين أكفاء في كل مجال بالإضافة إلى القرآن الكريم، ولكن المؤمن يؤمن أن الله سبحانه وتعالى لا يحجب هداه ولا يمنع الفهم عن أحد بسبب صغر سنه أو صغر مقامه، فله المشيئة المطلقة في هذا.

وهنا درس أخلاقي مهم يتعلق بمشيئة الله في إنزال الفهم تعرضه سورة الأنبياء في بقضية داود وسليمان حين نفشت غنم القوم في أحد المزارع.

﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ۝ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾

سورة الأنبياء (78)-(79)

تساؤل

نتسائل: لماذا أفهم الله نبي الله سليمان الحكم في هذه القضية ولم يفهم نبي الله داود (ع)؟ أليس مقام الأب أعلى من مقام الابن؟ أليست خبرة نبي الله داود في الحكم أطول من خبرة نبي الله سليمان؟ ثم أن نبي الله داود جاهد في سبيل الله مع طالوت حتى قتل جالوت ثم آتاه الله الملك والحكمة؟ أليس من المجاهدين ومن الذين صبروا مع طالوت؟ فما الحكمة من تجاوز نبي الله داود؟ وما الحكمة التي يراد لنا أن نتعلمها من قوله تعالى " ففهمناها سليمان " ؟ نقف عند هذه الحقيقة في ثلاث نقاط:

أولًا: حسب الآية الشريفة : فإن الفهم والإلهام الرباني لا يلتزم بعمر ولا بخبرة ولا بدرجة ولا مكانة، الآية لا تثبت مقامات، ولا تنفي علو درجة أحد على آخر، فلا نعلم من هو الأعلى مقاماً، ولكن ما نعلمه بوضوح الآية أن الله يفهم من يشاء لحكمة ربانية.

ثانيًا: عندما فهم نبي الله سليمان الحكم، هل امتنع عن النطق به؟ خوفاً من تجاوز المقام؟ أم أنه تحدث ؟ هل امتنع عن قول الحق لأن أمامه من هو أعلى مقاماً أو أكبر سناً أو أكثر خبرة؟ أم أنه شعر أن من واجبه أن ينطق بهذه الحقيقة؟ التي ألهمه الله إياها؟

نعم ما نظنه أنه تحدث بما ألهمه الله سبحانه وتعالى من حكم في هذه القضية، ولم يمتنع لأي مانع من الخوف على مكانة نبي الله داود (ع)، ولم يستصغر نفسه أو يستعظمها، لأن المسألة ليست مسألة ما هو قدر المتحدث، وإنما هي ماهي قيمة هذه الحقيقة.

ثالثاً:ما الذي نتوقعه من ردة فعل نبي الله داود (ع)؟ هل أنه لم يقبل بحكم ابنه نبي الله سليمان لأن الحقيقة يجب أن تصدر منه فقط ، وعلى نبي الله سليمان أن يؤيده؟ أم أنه أقر بهذه الحقيقة ؟ وأدرك أن الله سبحانه وتعالى ألهم هذا النبي بدلاً من أن يلهمه هو؟ فقبل بالفهم وحكم به؟ ما الذي نتوقع من نبي الله داود في هذا الموقف؟ الأنبياء يتحدثون من أجل الحقيقة وينتظرون الحقيقة ولا ينظرون إلى أنفسهم، هذا هو الخلق الرباني وهذه هي التربية الإيمانية.

فوائد

وبالمثل ومن هذا الموقف نريد أن نتعلم درساً في تناول الأفهام في القرآن الكريم ، ونستلهم من هذا الموقف ثلاث فوائد:

  1. الفهم السديد والمنطق السليم والكلمة المؤثرة هي هبة من عند الله.
  2. هل يستطيع أحد أن يضع الإشكالات على فهم نبي الله سليمان (ع) في ذلك الموقف من أجل عرقلته واستصغاره؟ نعم يمكن ذلك، فهناك من لا تعجبه الحقيقة، وهناك من لا يريد أن يعلو أحد عليه، ولكن المؤمن حين يسمع الحقيقة يستجيب لها، لأنه يبحث عن الحقيقة لا عن المكانة. فلا تضع الإشكال أمام الحقائق فتتعثر، بل ادعمها وشجعها، فقد تكون هداية من عند الله سبحانه وتعالى.
  3. في مجالس القرآن ومذاكرة معانيه، إذا ألهم الله أحداً فلا يهم أن يكون ذلك الأحد كبيراً أو صغيراً، المهم أن نستشعر تلك الحقيقة بقلوبنا، فإذا استشعرناها كان لابد من التواضع لها وعدم التكبر عليها والإذعان بأنها الحق.