مدونة حلمي العلق

الاستغناء عن الكتاب

 | خواطر قرآنية

مقدمة

كان الحديث في الدرس السابق عن اتباع الآباء، وقد وجدنا أن الشيطان الرجيم يقف داعيًا للعصبية العمياء دافعًا للتحيز الفكري بغرض إبعاد الناس عن صراط الله المستقيم المتمثل في الحقائق التي أنزلها الله في كتابه السماوي، والشيطان بهذه الدعوة الخفية وبتعزيزه لذلك التوجه يوجد البديل الذي تتعلق به النفوس وتقدسه وتعطيه الدرجة العليا بغير وجه حق، حتى يضعف التمسك بما هو أحق بتلك الدرجة وتلك الرفعة وهو كتاب الله.

مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال ترتبط الأمم التابعة لتلك الأبوة إلى أنموذجها المعرفي الذي نشأت عليه، وتبنى على أساس ذلك الأنموذج المعقولات واللا معقولات، فما ألفته من آباءها يكون هو المعقول والمنطقي والمعروف، وما خالفه فهو غير منطقي وغير معروف وغير معقول. وعلى هذا تتكوّن عند الإنسان مجموعة قيمية يقبل من خلالها المعارف أو يرفضها، لكن بدون أن يجتهد هو في تأسيسها أو البحث عنها من مصدرها النقي الخالص وهو ما أنزل الله.

إن التعصب لهذه الأبوة العقائدية يحول بين المرء وبين التفكر الذي يدعو إليه كتاب الله، ويعطل العقل فلا ينظر ولا يتحقق في مدى توافق ما هو عليه مع ما أنزل الله، ويصبح ما ألفه هو المقدس، أما ما أنزل الله فما هي إلا كلمات على قرطاس يعترف بنزولها لكن لا يعليها حق الإعلاء، ولا يقدسها كما يقدس ما هو مألوف، وبالتدريج لا يبقى من الكتاب إلا رسمه.

الله سبحانه وتعالى يريد من المؤمن أن يبقى مفتقرًا إلى كلمات الله فهي مصدر الهدى، ومنبع الرحمة وسبيل الاستقامة، مداوم على حقائقها بالتذكير والتذكر حتى لا تغيب في واقعه وحياته، متعلق بكتاب الله بالشكل والمضمون، ولا يكتفي برفعه كشعار بل يسعى في البحث عن مضامينه حتى يغيّر من واقعه وحتى يتطابق مع هذا الهدى الذي بين يديه.

عنوان حلقتنا لهذا اليوم هو الاستغناء عن الكتاب، وهذا ما يصل إليه المتنسك في الدين على ما وجد عليه آباءه، وندرس ذلك في الآية (104) من سورة المائدة، وهي آية شبيهة بالآية (21) من سورة لقمان التي تناولناها في الحلقة السابقة.

الاستغناء عن الكتاب

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة آية 104

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ﴾ المائدة (104)

جاءت هذه الآية الشريفة في سورة المائدة بعد آيات استعرضت انحراف أهل الكتاب عن عقائد وأحكام أنزلها الله لهم في التوراة والإنجيل، والآية تصف حال بعض الأمم الذين ابتعدوا مع الزمن وبخطوات الشيطان عن كتاب الله وأحكامه وشرائعه، وتبيّن أن سبب ذلك الابتعاد وذلك الانحراف هو أنهم استغنوا عن كتاب الله بشيء آخر واتجهوا إلى مصدر هدى آخر غير ما أنزل الله.

1- " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول"

الآية الشريفة تضع الرسول في نفس جهة ما أنزل الله، فهما يمثلان اتجاهًا واحدًا، وليسا اتجاهين مختلفين، هما يمثلان قيمة واحدة، الرسول يحمل رسالة إلى الناس من عند الله هي ذاتها (ما أنزل الله)، وكونه مطبقًا ومجسدًا لما أنزل الله فهذا يعني أنه أصبح حجة على من لا يطبق ما أنزل الله. الرسول وما أنزل الله في صف واحد في اتجاه واحد، أما طريق الآباء فقد يؤدي إلى طريق مختلف، وقد يؤدي إلى اتجاه مغاير ومختلف.

من وجهت لهم الآية الخطاب في زمن الرسول هم أقوام كانوا على دين، ومشكلتهم أنهم تدرجوا في الدين ابتعادًا عن ما أنزل الله حتى أرسل الله لهم النبي محمد (ص) آمرًا إياهم بالعودة إلى ما أنزل الله.

2- " قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا "

ولهذا الرد دلالة هامة، فتلك الأقوام لم تشر في ردها على (دعوة العودة إلى كتاب الله) إلى كفرهم به، لم يقولوا إنا بما أنزل علينا كافرون، لم يعلنوا كفرهم بالكتب المنزله ولم يعلنوا كفرهم بالتالي بالعقائد الغيبية، وبأن الله سبحانه وتعالى يريد منهم دين وعقائد وشرائع، لأنهم في حقيقتهم متدينين! ولكنهم ردوا باكتفائهم بما وجدوا عليه آباءهم، وهم بهذا الرد يؤكدون إيمانهم بالتنسك والعبادة والاعتقادات الغيبية، وعمدة قولهم أن هذا الذي بين أيديهم، هذا الذي ورثوه ووجدوا عليه آباءهم هو حسبهم، هو كفايتهم للوصول للهدى المطلوب، وبهذا هم يعلنون عن استغناءهم التام عن كتاب الله! وما سبب ذلك الاستغناء؟ هو احتلال موروث الآباء موقع السلطان والبرهان والمكانة العليا في النفوس.

3- " أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون" ؟

بالعودة إلى آية (21) من سورة لقمان، لقد تبيّن لنا من تلك الآية أن الشيطان هو الذي يدعوهم إلى هذا الاتجاه لأنه يريد بذلك استدراجهم إلى غضب الله وإلى عذاب السعير، وهذه الآية تكمل مفهوم تلك الآية الشريفة إذ أن ما وجدوا عليه آباءهم لا يستند إلى علم حقيقي من عند الله، حتى وإن كان شكله يوحي بالدين.

الآباء يمثلون الأمة أو الأمم السابقة التي أسست لشيء سواء كان من الشريعة أو العقيدة وهو ليس من الدين في شيء، ثم أخذته الأمة أو الأمم اللاحقة تباعًا دون تحقق من مطابقته مع الكتاب السماوي، والآية حين تتساءل " أولو" ؟ تعني كان على هذه الأمة أو الأمم اللاحقة أن تتحقق من تطابق ما وجدوا عليه آباءهم مع ما أنزل الله، فقد تكون تلك الأمم التي أرجعوا إليها مآلاتهم في الدين قد ظلمت في أخذها للكتاب وابتعدت عنه، وأسست ما أسسته على غير هدى من الله، وما لم يكن شرع الإنسان مؤسس على ما أنزل الله فالفرصة مؤاتية لهجوم الشيطان ولتمرير ما يريده من إفساد وإبعاد عن أحكام الله وشرائعه، فاسس لباطل توارثته الأجيال اللاحقة ثقة بمن سبقها!

خلاصة

الآية تبين لنا كم هو تأثير التعصب للآباء في الفكر الأمر الذي يؤدي إلى الشعور بالاستغناء عن الكتاب، وعليه يجب أن لا يكون لحب الآباء والتعلق بهم تأثير في قضية التفكير وأخذ الحقيقة من مصدرها الحقيقي وهو كتاب الله، الآية لا تقول للمؤمن أن يقطع صلته بالروابط الإنسانية العميقة وأن يفسد علاقاته الأصيلة، ولا تقول أن ما يجده الإنسان من آباءه هو مطلقًا في الخطأ، ليس هذا هو غرض الآية، ولكنها تؤكد على ضرورة أن لا يكون لتلك الروابط تأثير في اتخاذ كتاب الله وتحمل مسؤوليته تجاه هذا الدين فهو مسؤول ومساءل أمام الله، أما حجة ( هذا ما وجدنا عليه آباءنا ) فهي حجة لا قوام لها يوم القيامة.