التقدير
| خواطر قرآنية# مقدمة
الناس والأشياء من حولنا تحل مقامات مختلفة، وعندما نقول أننا نعرف مقام أحد، أو مقام شيء ما، فذاك لا يعني غير أننا ندعي تلك المعرفة فقط، أما المحك فهو الفعل وردود الأفعال التي تصدر منا تجاه ذلك المقام، أفعالنا وردود أفعالنا هي التي تبين إن كنا نعرف مقام أحد ما أو لا نعرفه، فقد ندعي أننا ننزل أحدهم منزلة عالية ونعطيه مسمى مقام عال، ولكن في الأفعال قد يصدر منا تجاهه ما لا يليق بمقامه! والعكس صحيح، فقد ندعي أننا نعطي شيء ما مقامه الذي يستحقه، ولكن في الفعل نعامله بأكثر من حقه. ومدار تصديق ذلك الادعاء في كلتا الحالتين هو الفعل والتعاملات والاعتبارات، وبعبارة أدق يمكن أن نقول أن مدار تصديق ذلك الادعاء في معرفة مقام ما هو تقدير صاحب ذلك المقام، لأن التقدير يدور في مدار الفعل والاعتبارات.
الدين يبنى على أساس معرفة مقام الله عز وجل، ولا يكفي في معرفة هذا المقام أن ندعي المعرفة، بل يجب أن نتحصل عليها حتى تظهر في الأفعال والأقوال والاعتبارات، أي حتى نقدّر الله حق قدره، وتقدير الله لا يتمثل في تخصيص كلمة "إله"، بل في تخصيص تقديره على أساس هذا المسمى أيضاً، فلا يشاركه أحد في هذا المسمى، ولا يشاركه أحد في التقدير الذي تستحقه هذه الكلمة أيضاً، فقد نخصص هذه الكلمة له سبحانه وتعالى، ولكن تعاملاتنا تظهر أن تقديرنا له أقل من ذلك، والحقيقة والعبرة على ما في الصدور وليس على ما تدعيه الألسن فقط.
القرآن الكريم وفي معظم آياته لا ينذر أناساً لا يعرفون الله، إنه يخاطب في إنذاره أناس يعرفون الله بجميع أسماءه، ولكنهم لا يقدرونه حق قدره، نسوا الله بمعنى نسوا قدره، ونسوا كلمات الله، ولم يعد في قلوبهم رهبة من آياته وإنذاره ووعيده، متساهلون في أوامره البيّنات، مبتعدون عن أحكام الكتاب وعقائده، وعلى هذا كان إنذار الرسل لهم، على أساس عدم التقدير لا على أساس عدم المعرفة.
عدم تقدير الله يظهر في أشكال غير مباشرة لكن القرآن يفضحها ويكشفها ويصفها بحقيقتها، نستعرض في آيتين عدم تقدير الله في موضوعين مختلفين.
# التقدير
# المظهر الأول
يقول الله عز وجل
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ الأنعام (91)
ننظر في هذه الآية إلى تداعيات سوء التقدير على من يدعي معرفة مقام الله ولكنه لا يقدر الله على أساس ذلك المقام، ولا نقصد تبيين كل مافي الآية من مضامين ولكن نكتفي بالإشارة إلى ما يخص الموضوع الذي نحن بصدده فقط.
1- الآية تقول " ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء" لم يقدروا الله حين قالوا هذه المقولة، وهي إشارة إلى قولهم عن القرآن بأنه لم ينزل من عند الله، وبهذا هم لا يقدّرون الله لأنهم لم يقدروا كلمة الله، ولا يشعرون بهيبتها ولا يشعرون بأن هذه الآيات لابد وأن تكون صادرة من عند الله سبحانه وتعالى. والآية تعزو مسألة نكران القرآن ليس إلى إشكالات فكرية ولكن إلى عدم التقدير. وهذا المسار في تحليل المشكلة مختلف عن مساراتنا الفكرية، إذ اننا نحول القضايا الإيمانية إلى معمل اللغة والمنطق والفلسفة، ويتحول الأمر إلى مسألة كلامية، والحقيقة التي يعرضها القرآن هي أنه يتناول المشكلة من جذورها فيقول بأنها مشكلة على المستوى الغيبي في تقدير الله، فمتى ما قدر الإنسان ربه قدر نتيجة لذلك كلامه.
2- ثم تناقشهم الآية باعتراض : "قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدىً للناس "، السؤال استنكاري بمعنى أن الذي يؤمن بالتوراة ككتاب يجب أن يؤمن بغيره، فالإيمان بالفكرة يشمل الجميع، والمعنى أنكم إذا كنتم تؤمنون بالغيب هناك فيجب أن تؤمنوا بالغيب هنا والعبرة في قوة الكلمة وتقديرها، في أنها نور وهدى للناس.
3- ثم تصف حقيقتهم في تعاملهم مع كتابهم السماوي بالإشارة إلى تقديرهم إلى كتاب التوراة، ليتضح أنهم لا يقدّرون التوراة أصلاً وإنما يؤمنون بها إيماناً شكلياً فقط " تجعلونه قراطيس " وما معنى هذه الكلمة ؟ أن الذي بين أيديكم تحول إلى حبر على ورق ليس أكثر، والآية تستنكر أن يتعامل أهل كتاب مع كتابهم بهذا المستوى من التهاون والاستخفاف، و حقيقة تعاملهم مع التوراة هي التي جعلتهم يكفرون بالقرآن، وذلك نابع في الأصل من عدم تقدير الله حق قدره.
ظهر عدم تقدير الله على صورة عدم تقدير للكتاب، والكتاب مقامه عالٍ ولكن لا يكفي أن نحدد ذلك المقام بالكلام أو بالشعارات فقط ولكن بتقديره.
# المظهر الثاني
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ الحج (73) - (74)
- تضرب الآية مثلاً للذين يتوجهون بقلوبهم للدعاء لغير الله : " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له " وتطالب الناس أن يستمعوا لهذا المثل لأهميته ولعظم هذا الأمر.
- " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب" إنما التوجه بالدعاء والطلب يحق لمن هو في مقام الخالق وهؤلاء الذين تتوجهون لهم لن يستطيعوا أن يخلقوا كائن حقير مثل الذبابة، ولو اجتعموا على ذلك، هؤلاء في درجة من الضعف وعدم القدرة حتى على استنقاذ جزء تسلبه الذبابة منهم، فلو أن ذبابة أخذت شيء منهم لا يستطيعون استعادة ذلك الشيء، فكيف يمكنهم أن يستجيبوا لكم؟ بعدها تشير إلى تساوي الجميع في الضعف وعدم القدرة فسبحان الله عما يشركون.
- لآية التالية تبين أصل المشكلة وهي سوء التقدير، " ما قدروا الله حق قدره " في ماذا؟ في أنهم أعطوا هذا التوجه لغير الله، والذي يستحق هذا التوجه هو الله لأنه في مقام الخالق وغيره في مقام المخلوق. " إن الله لقوي عزيز ".
# ملخص
ظهر عدم تقدير الله في الحالة الأولى في عدم تقدير الكتاب المنزل والاستهانة به وعدم الرهبة من أوامره، وفي الحالة الثانية ظهر في تقدير غير الله والتوجه له بغير ما يستحق، وإنزال غير الله مقاماً لا يستحقه هو في الأصل مخصوصٌ لله، وفي كلتا الحالتين لم تكن الألفاظ هي الحاكم وإنما الأفعال التي تجسد التقدير الحقيقي.
قد نحفظ ألفاظنا بحيث تكون مطابقة للمقامات التي نعرفها من الدين، ولكن قد نخطئ في التقدير ، وحين يقول القرآن الكريم "والله يعلم ما تسرون وما تعلنون" فهو يقصد في أحد جوانبه تلك الخفايا من التقديرات الخاطئة والمكنونة في باطن الصدور والذي تفضحه المواقف.
اللهم علمنا من كتابك ما ينفعنا وما تسألنا غداً عنه ولا تجعلنا من الغافلين الذين لا يقدرون كلماتك وآياتك إنك على كل شيء قدير.