مدونة حلمي العلق

المقام

 | خواطر قرآنية

مقدمة

لا يرد القرآن في أغلب حواراته الفكرة بالفكرة كما نفعل نحن وإنما يرد الفكرة في الغالب بالتذكير ، التذكير بقضية جوهرية عنوانها من أنت ومن هو ؟.

قد نتصور أن هناك منطق واحد جامع لكل البشر يمكن من خلاله أن تتفق الآراء والعقائد والتوجهات، ولكن الواقع يشهد بغير ذلك. إذ ليس هناك منطق واحد جامع ولا عقلية واحدة، وقد نتصور أن رفضنا أو قبولنا لقضية ما هو بسبب المنطق العقلي فقط، القرآن الكريم يكشف أن هناك حقائق أخرى تمس جذور العقل والمنطق وتسبقهما، القرآن الكريم حين يجيب أو يستنكر على الفكرة الخطأ يعالجها بالفكرة السليمة تارة ، و بالتذكير بالمقام في كثير من الأحيان.

المقام هو القدر الذي يعتقده الإنسان في نفسه وفي الآخر، وللإنسان مقامين رئيسيين هما مقام الفقر ومقام الغنى.

هما المقامين اللذين أشارت إليهما أول سورة ،سورة العلق، في الآية الأولى أمرت بالقراءة، ثم بعدها ذكرت الإنسان بمقامه أمام الله سبحانه وتعالى وهو مقام المخلوق الضعيف أمام مقام الخالق.

﴿(بسم الله الرحمن الرحيم) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) ﴾ سورة العلق

وبعدها تبين أن رفض القراءة إنما هو بسبب الشعور بالطغيان والطغيان نابع من شعور الإنسان بالغنى ، والغنى هو مقام نفسي تنشغل به النفس عن الحقائق الغيبية إلى مظاهر الدنيا الزائفة

﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) ﴾ سورة العلق

إذ لا يمكن أن تتنزل الحقائق الربانية على من اختل مقامه إلى الطغيان.

القناعة التي يطلبها الإنسان ويطالب بها غيره حتى يقتنع أو يدخل في موضوع الدين أو التعامل مع كتاب الله، لا تتأتى من بوابة العقل والفكرة السليمة فقط، وإنما هي في حقيقتها تنتهي عنده، ولكن مبتداها وأصل مشكلتها من اختلال المقام. وعلى هذا تجري أغلب حوارات القرآن الكريم، فأصل الحوار مبني على أساس من أنت ومن هو؟ وظهور الفكرة الفاسدة إنما هو مظهر من مظاهر اختلال هذا المقام وليس بسبب فقدان العقل لأحد ضوابط المنطق.

تصحيح المقام هو نهج قرآني والدلالة عليه في مواضع كثيرة نأخذ لذلك مثالاً في سورة الطور

المقام

﴿ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)﴾ سورة الطور (36)-(43)

" فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين * أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون "

نطرح التساؤل التالي: ما العلاقة التي تربط تصديق هذا الحديث الرباني، وحقيقة أنه نازل من عند الله وبين حقيقة خلق الإنسان؟

الآية بدأت بالقول " فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين" إنها تقول يا من تنكر هذا الحديث وتدّعي أنه لم يصدر من عند الخالق، هل تستطيع أن تأتي بحديث مثله؟ وهذا تساؤل يجيب على الإنكار أي أنه يرد فكرة بفكرة، وهذا أسلوب منطقي ويمكن أن نقول أنه إثبات بالنقيض.

ثم تتساءل الآية التالية: " أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون" ألم تعلموا أنكم بشر مخلوقون؟ أم هل أنتم الخالقون؟ وعندما تسأل الآية هذا السؤال، فهي تشير إلى أن الرافض لإرسال الله كتاب للبشر إنما وصل في شعورة عن نفسه أنه وجد بدون خالق، أو أنه هو الذي خلق!

والآية تذكر بحقيقة خلق الإنسان وتكوينه، ما الذي سيغيره تذكر هذه الحقيقة؟ هذه الحقيقة تغير مقام الإنسان الذي انساه إياه غرور الدنيا، فالإنسان ينسى أنه مخلوق ومن أحقر المكونات، التراب والنطفة، والعلقة ، ينسى أنه لم يكن شيئاً مذكورا، وبعبارة أخرى هو ينسى من هو ؟ ونتيجة هذا النسيان هو الشعور بالغنى وهذا ما يجعله ينكر حديث الله، ويترفع عن كثير من الحقائق الغيبية، ليس لأنه لا يعلم، ليس لأنه لم يقتنع، ولكن لأنه في مقام آخر لا يسمح له برؤية الحقيقة.

مستقبل حقائق القرآن الغيبية إما أن يبقى في مقام الاستكبار المستغني الذي بلغ ذروته فرعون ووصل للطغيان، وحين عرض عليه نبي الله موسى الحقائق الغيبية طلب من هامان أن يبني له صرحاً حتى يبلغ أسباب السماوات فيطلع إلى إله موسى ثم يقتنع بوجود إله، أو أن يقيم في مقام المخلوق المحتاج الفقير الذي لا يجد في نفسه قوة أمام خالقه، وذلك المقام الذي جسده ني الله إبراهيم الذي لا يجد لنفسه حولاً ولا قوة ( الذي خلقني فهو يهدين). وحين يبلغ الإنسان هذا المقام لا يحتاج إلى دليل نقلي ولا عقلي في معرفته وقناعاته في ربه وفي كتاب ربه، وهذا المقام هو الذي تتفتح فيه المعارف بلا حاجة إلى جدل مطول، ولا أزمات فكرية عقيمة، والإنسان تزداد أزماته العقلية كلما وجد أنه غني متمكن بماله أو بعقله أو بذكاءه، وتتقلص كل تلك الأزمات حين يشعر بالفقر أمام الغني. " متى غبت حتى يحتاج إلى دليل يستدل به عليك عميت عن لا تراك عليها رقيبا"

وهذا المقام لا يدخل إليه الإنسان إلا بعد أن يخلع نعليه، والتجربة تقود إلى الحقيقة، وفي هذا المقام يتقلب المؤمن في منازل عده أهمها منزلة الرهبة التي تحدثنا عنها في الحلقة السابقة والتي تكون سبباً في الذهاب بموانع الإيمان، وموانع القناعات العقلية ، وحين يقيم الإنسان في هذا المقام تتغير مشاعره وقناعاته ويبدأ بعدها العقل بالتعبير عن تلك القناعات وتلك المنزلة بمفاهيم أخرى وعقلية مختلفة تماماً.

لقد وجدنا في الحلقة السابقة أن الرهبة هي التي تقود إلى الطاعة والاستسلام إلى المطلب الرباني وليس العلم وحده، وهذه الرهبة التي هي منزلة من منازل النفس وأحد مظاهرها الخوف من الله، إنما تنبع حين يغير الإنسان مقامه، وينزل من استكباره إلى مقام المخلوق حتى يرى مقام الخالق، يقول الله سبحانه وتعالى : في سورة النازعات

مقام الله

﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۝ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ۝ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ سورة النازعات (37)-(41)

لا حظ على ماذا يستند حساب الآخرة، وماهو المعيار في ذلك؟! لاحظ أهمية أن يدرك الإنسان مقام الله، ثم لاحظ من اختل مقامه لا يمكن له أن يخاف مقام الله، الآيات الشريفة تعرض حالتين، في الحالة الأولى طغيان، وفي الحالة الثانية خوف من مقام الله، أما الذي طغى فهو من اختل مقامه وابتعد عن الحقيقة، أما الثاني فهو عكس الأول وعكسه أنه خاف مقام الله ، ولقد نزل منزلة الخوف من مقام الله لأنه أدرك مقامه أولاً وهو مقام المخلوق الفقير الضعيف، ومن ثم نزلت نفسه منزلة الرهبة من الله، وبعد ذلك نهى النفس عن الهوى، فكانت الجنة هي المأوى.

الاستكبار

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ﴾ الفرقان (21)

يقولون لو تنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا سنقتنع بهذه الدعوة، وسنقتنع بهذا القرآن وهذا الكتاب، لأننا نريد دليلاً ملموساً، فلماذا لا يرسل الله لنا الملائكة حتى نطمئن، وقد تكرر هذا المضمون في القرآن الكريم في أكثر من صورة ومنها ما كان بصيغة إنزال الكتاب في قرطاس من السماء حتى يلمسوه بأيديهم، ولكن ما هو الرد على مثل هذا المطلب الذي قد يكون مطلباً منطقياً بالنسبة لمن لا يؤمن باليوم الآخر، الرد هو أن هؤلاء استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً. هذا مطلب المتكبر هذا مطلب العاتي على ربه.

من خلال إدراك حقيقة تأثير المقام على الإنسان ندرك أنه لا يوجد منطق واحد يستوعبه كل البشر، فلكل منطقه، ولذلك قد تطول الحوارات والنقاشات في بعض الأحيان بين المختلفين دون طائل أو فائدة ترتجى، لأن كل فرقة تعتمد على منطقها الخاص النابع من اعتقادها في نفسها. وفي الدين بالخصوص لا يمكن لمن يريد أن يصل إلى قناعة تامة فيه أن يعتمد على العقل دون أن يعالج المقام، إنما يجب أن يبدأ من تغيير المقام أولاً ، فما دامت النفس في مقامها العالي فلن ترى مشكلة في قناعاتها، ولن ترهب من كلام الله ولن تجد دافعاً للتغير.

والحمد لله رب العالمين