مدونة حلمي العلق

الأثر

 | خواطر قرآنية

مقدمة

كان حديثنا في الدرس السابق عن البرهان على أنه اسم من أسماء آيات القرآن الكريم، وعلى أن المطالبة بالبرهان هي سمة وسلوك إيماني يتصف به من آمن بهذا الكتاب، وهذا السلوك يتطلب العودة والتفكير و المدارسة لكتاب الله العزيز، على أساس اتهام النفس لا على أساس تزكيتها، فكثير من الأمم السابقة كانت تزكي وتبرئ نفسها من الخطأ الذي يشار إليها حين يواجهها الرسول بأخطائها بالآيات المنزلة.

الرسول يصطف دائماً مناصراً لدعوة الله مناصرًا لآيات الله، أما المعاندون فكانوا يصطفون مع ما خلفه آباءهم من أثر ، الكتب السماوية لا ترفض الإثر لأنه شيء طبيعي في كل أمة، بل وتستشهد بأحداث ووقائع يعلمها الناس وعلموها من آباءهم، ولكن المشكلة التي يرفضها الكتاب السماوي هي الأخذ بذلك الأثر كله على حساب ما أنزل الله، أي أن تؤمن الأمة بذلك الأثر كله، ونتيجة لذلك الإيمان تبعض في إيمانها بكتابها السماوي أي أن تؤمن ببعض وتكفر ببعض، وعلى العكس من ذلك فالكتب السماوية تطالب أقوامها التي نزل عليها أن تؤمن بالكتاب كله دون نقيصة، ونتيجة لذلك الإيمان المطلق بالكتاب عليها أن تبعض في ما تأخذه من أثر ممن سبقها، فتأخذ ببعضه الذي يتوافق مع كتابها المنزل وتترك الآخر الذي لا يتوافق مع آيات الله، أما أن تقدس الأمة آثارها وتجعلها أهم وأعلى من كتاب الله و تهمل كتابها السماوي وتبعض في إيمانها فيه فهذه هي المشكلة التي يبينها القرآن الكريم ويحذر منها الأمم.

يصف القرآن الكريم هذه المشكلة في أكثر من موضع ويبين أنها تبدأ بالتهاون بشيء مما أنزل الله لحساب ما يُؤثر فيُقبل بدون برهان ، ومع تعاقب الأجيال تتفاقم المشكلة فلا يبقى من الدين الحقيقي إلا اسمه ولا يبقى من الكتاب المنزل من عند الله إلا رسمه! نحاول أن نعرض لمحة عن هذه المشكلة من خلال آية شريفة من سورة الصافات.

الأثر

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الصافات من آية (96) إلى آية (74)

﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ۝ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ۝ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ ۝ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ ۝ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ۝ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾ سورة الصافات (69) - (74)

تصف هذه الآيات الشريفة المشركين المعاندين لرسالة النبي محمد (ص) أنهم لم يدرسوا حقيقة ما يريده الله، وكل ما فعلوه هو أنهم جاءوا لهذه الدنيا فوجدوا آباءهم على ملة وعلى دين فأخذوا به دون تمحيص، ولم يتحققوا منه أنه حق أم ضلال، فهرعوا على نفس الضلالة دون تفكير أو إرجاع للحق المنزل، ودون الأخذ بالبرهان والسلطان الرباني، وعلى الرغم من هذه الحركة المتعجلة إلا أنهم يقفون موقف الرافض والمعاند للحقيقة.

1- ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ﴾

ألفى الشيء أي وجده أمامه، وهذا يعني أنهم لم يبحثوا! لم يضعوا التساؤلات، لقد وجدوا آباءهم على دين، على عقيدة على شريعة، وعلى فكر فأخذوا به! وكلمة الضلال توصيف رباني للحال، فهم بطبيعة الحال لا يعترفون بضلالهم أو ضلال آباءهم ولكن الآية تصف أن هؤلاء ألفوا آباءهم على حال بيّنٌ ضلاله لكنهم مع ذلك أخذوا به دون النظر أو التركيز في حقيقته كما تبين الآية التالية ، وكلمة ألفوا تعني أنهم لقوا هذا في طريق حياتهم بما شاء الله لهم أن يكونوا في هذا القوم أو ذاك فسلموا به.

2- ﴿ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾
أثر السير هو ما يخلفه الماشي من أثر على الأرض بعد مسيره، وهو ما يقال عنه هو الطريق المستدل به على من تقدم، وآثار الآباء هو ما تركوه من مناسك وعادات وعقائد لمن بعدهم وهو الدين. أما الهرع هو السير السريع بهلع واضطراب.

وفي هذا دلالة على حقيقة ما تصفهم الآية الشريفة فهم يسيرون بقوة سيرًا حثيثاً لا هوادة فيه ولكن بدون تفكير أو روية أو تأمل ودون جهد أو إعمال العقل، إلا أنهم هرعوا للأخذ به، ألفوا هذا الطريق جاهزاً بخطى من سبقهم فحثوا فيه السير ، دون أن يفكروا هل يؤدي فعلًا إلى طريق النجاة الذي يريده الله أو لا؟

ويَهرع بالفتح تختلف عن يُهرع بالضم، هرع يهرع، أما يُهرع مثل يُفزع، أي أن هناك من يفزعه فيفزع، ويُهرع تعني أن هناك من يُهرعه أي يدفعه في هذا الاتجاه، فيَهرع أي يستجيب لذلك الدفع فيندفع، ومن الذي يمكن أن يدفعه لذلك وفي هذا الاتجاه؟ هناك تيار ولهذا التيار أعوان وأبواق من الإنس والجن.

وفي هذه الآية بيان لحقيقة الآثار التي هي عنوان هذه الحلقة، أن لهذا الأثر تأثيره الكبير في الإحراف عن حقائق ما يريده الله سبحانه وتعالى، وأن وجود هذا الأثر كان مادة يستفاد منها في إحراف من لا يتأمل أو يفكر.

3- ﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ ﴾

وهنا بيان على أن ضلال أكثر الأولين الذين سبقوا قوم النبي محمد (ص) قد ضلوا على نفس المبدأ وبنفس المشكلة، الآية تقول "أكثر" ، على أنها قاعدة يخشى منها على الأمم اللاحقة لأنها وقعت كثيراً في الأمم السابقة.

4- ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ ۝ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ۝ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾

لقد أرسل الله سبحانه وتعالى للأمم السابقة رسلاً منذرين، ينذرونهم ويحذرونهم من خطورة ماهم عليه، ولكن هل استجابوا؟ القلة التي استجابت، وعلى الرغم من ذلك، وبعد كل تلك الوقائع هاهم قوم النبي محمد (ص) يعودون للوقوع في نفس المشكلة ويتخذون من آثار آباءهم منهجاً تاركين وراءهم كلام الله وأوامره المنزلة.

إذًا جاءت الرسل لتقف مع من؟ ولتصطف مع من ؟ مع الأثر أم مع كلام الله؟ لقد جاءت تلك الرسل تحذر أممها من الوقوع في غضب الله بسبب عدم تنازلها عن آثار الآباء التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبسبب اندفاعهم إلى عقائد لا برهان لهم عليها.

" فانظر كيف كان عاقبة المنذرين، إلا عباد الله المخلصين"، المخلصين هم الذي أخلصوا لله من خلال اتباع نصوصه،

خلاصة:

الدين هو تطبيق نص وليس تتبع أثر، وتطبيق النص يحتاج إلى تروٍ وتعقل وتفكير أما اتباع الأثر فيحتاج لحالة الاندفاع التي لا تعقل فيها ولا ترو ، والعبودية الخالصة لله تتجسد في إسلام الوجه لله في التوجه لبرهانه المنزل وبيناته الساطعة والحمد لله رب العالمين.