مدونة حلمي العلق

البغي

 | خواطر قرآنية

مقدمة

حين يكون الحديث عن فهم القرآن، قد ينصرف الذهن مباشرة إلى الأدوات التي يحتاجها المتدبر في هذا السبيل، وقد نغفل عن سنن ربانية ذكرها الله في كتابه تبدو هي الأولى والأهم، ولا يعني ذلك أن تلك الأدوات ليست مهمة، ولكن يعني أن الأساس الذي ينطلق منه القرآن الكريم هو تلك السنن، وحين يحققها المتدبر ودارس القرآن يكون للأدوات دورها الفاعل في عملية الفهم.

واحد من المحاذير الهامة التي يجب اجتنابها في دراسة القرآن هو البغي على الآخر ، هو عنوان خلقي ولكن منطلقه ومنشأه إيماني، هي أخلاق المؤمنين الساعين للحقيقة في أنهم لا يستخدمون القرآن ولكن يسمحون للقرآن أن يستعبدهم ويغيّر من طبائعهم وأفكارهم. نعم المؤمن يدعو للحق لكنه لا يبغي على من يخالفه فيه.

ندرس تأثير البغي على فهم القرآن بصورة مختصرة من آية 213 من سورة البقرة.

البغي

يقول الله سبحانه وتعالى:

﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ سورة البقرة (213)

تبيّن الآية الكريمة أن أهل الكتاب اختلفوا في الدين ولم يتفقوا فيه، وتباينت آراؤهم حول الأحكام والعقائد والشرائع، على الرغم من أنهم هم من أهل الكتاب الذين أنزل عليهم كتب سماوية سابقاً "وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه". كان الخلاف قائماً ولكن متى اشتد، ومتى ازداد؟

متى اشتد الخلاف؟

متى اشتد الخلاف واشتبكت الآراء؟ حدث ذلك "من بعد ما جاءتهم البينات"، والبيّن لا خلاف ولاجدال فيه، ولكن السؤال هو: إذا كان بيّناً فلماذا انتهوا إلى الخلاف؟! ألا يلغي البيّن والواضح التيه والشتات؟ ما الذي حجب نور وحقيقة هذا البيان؟ ولماذا أصبح البيّن لا يهدي؟ الإجابة هي أن النفوس لم تستحب الهداية، ولكن كان همها هو ما تبيّنه الآية، كان همها الانتصار والبغي على الآخر، والله سبحانه وتعالى عندما يوضّح أنهم اختلفوا بعد البيّنات، فهذا يدل على شدة الضلال، فلا ضلال مع وجود البيّن إلا لأنهم أصيبوا بالعمى.

ما هو البغي ؟

البغي هو تجاوز الحد مع الآخر، و يُفسّر البغي بالاعتداء، وهكذا يتضح الأمر فقد كان الجدال محتدماً وكانت النفوس مشدودة لتلك الحالة أكبر من اهتمامها بأن تنجو وأن تغيّر الخطأ الذي وقعت فيه، كان الهم هو الإثبات والثبات وحفظ ماء الوجه أمام الآخر، وكان السعي لإسقاط الآخر بدلاً من الاستجابة للحق، فوقعوا في البغي، وهذا الفعل أبعد عنهم الهدى.

ما هي دوافع البغي؟

حب العلو ، الاستكبار في الأرض بغير الحق، إثبات المكانة والذات. وما نتائج ذلك؟ هو الحسد والغل والكراهية تجاه كل من يستهدف تلك المكانة وذلك العلو بالنقيصة. وهذه الكراهية تفضي بالإنسان إلى الاعتداء والبغي على الآخر بتسقيطه حتى وإن استخدم في ذلك القرآن وآياته. وهذا أمر خطير، وفي هذه الحالة يحجب الله نوره، فيصبح قارئ الآيات في ظلمات بعضها فوق بعض، يمشي مشية المتخبط في الظلمة، ولهذا تصف الآية هذا الوصف العجيب، أن البيّنات بين أيديهم ولكنهم مختلفون، لأنهم لا يرون الحقيقة فقد سحبت من بين أيديهم، وهكذا يحجب الله سبحانه وتعالى هداه من كل من كان همه العلو والبغي على الآخر حتى وإن امتلك القدرات والملكات فلا شيء يعجز الله سبحانه وتعالى.

التعامل مع القرآن

بالوقوف على هذه الآية نستنتج أحد المحاذير الهامة التي يجب اجتنابها لمن أراد السير خلف هدى القرآن؟ يجب أن نبعد الآيات ونبعد أنفسنا عن دوائر الخصومة، وقتل الهمة في إسقاط الآخر والتقليل منه ومن مكانته، وتطهير النفس من حب العلو والحسد والغل. وهؤلاء الذين تتحدث عنهم الآية لم يطهّروا قلوبهم من هذه الآفات فنتج عن ذلك الغل والكراهية تجاه من يخالفهم، فسعوا بالبغي لإسقاط من يخالفهم بدلاً من أن يستضيئوا بنور هذا العلم وكانت النتيجة أن حجب الله عنهم نوره، وهو رب النور فأي أدوات بعد هذا الحجب تنفع أو تعين في فهم الآيات أو تدبرها.

(فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه)

هؤلاء الذين هداهم الله إلى حقيقة ما يريد، وطهروا قلوبهم أولاً، وترفعوا من الوقوع مصيدة البغي ، فمن كان يريد أن يتخذ هذا الكتاب كتاب نور وهدى عليه أن يطهّر قلبه أولاً ، وأن يجعل أكبر همه هو أن يصلح نفسه وينقذها، وأن يستخدم القرآن في هذا السبيل لا أن يستخدمه في الخصومات وإثبات الذات وإسقاط الآخرين لأن هذا السبيل نتيجته هو الخسران المبين كما تبين هذه الآية الشريفة. هذا هو أحد الأساسيات الأخلاقية التي يجب مراعاتها قبل الاعتداد بتحصيل الملكات والتعزز بالأدوات.

(والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)

يقول الله عز وجل في آية أخرى

﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ سورة الجاثية (17)

الآية تتحدث عن بني إسرائيل، وتتحدث عن البغي الذي حدث بين طوائف بني إسرائيل في زمن الرسالة. الشاهد في هذه الآية على الدرس التربوي الذي نسعى لفهمه هو قوله تعالى " بغياً بينهم "، الآية تتحدث عن اختلافهم عن الحقيقة والشريعة التي نص الله سبحانه وتعالى عليها في الكتب السماوية السابقة، وأن السبب في ذلك الاختلاف هو البغي، والبغي هو الاعتداء الناتج عن تجاوز الحد في التعامل مع الآخر ويطلق في التعاملات، وإذا كان الموضوع موضوع دين وعقيدة وشرع وكتاب فالبغي يشمل فيما يشمل السعي في إسقاط الآخر معنوياً، وفي أن لا تكون له قائمة، ومن ملامح هذا البغي قولهم لبعضهم البعض أنهم ليسوا على شيء.

﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ البقرة (113)

اللهم اجعلنا ممن يستضيء بنور القرآن ويهتدي بهداه واجعل أكبر همنا رضاك والجنة، فارحما واحشرنا مع الصالحين والحمد لله رب العالمين.