عودة القرآن إلى الصدور
بعد نزول القرآن الكريم لم يعد الدين حبيس الصناديق المقدسة أو سراً من أسرار الكهنوت يكتم أحكامه أهل الكتاب عن عموم الناس، كما تؤكد الآيات الكريمة:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ ﴾ البقرة (159)
لقد أضحت حقائق الدين بينة واضحة لكل من يبغي الحقيقة، صغيرهم وكبيرهم عالمهم وجاهلهم، ولم يبق بعد نزول آيات القرآن شيء في الخفاء كما كان قبل تلك اللحظة حين كان علماء بني إسرائيل يحتكرون الكتاب مستغلين جهل العامة وتراخيهم.
إن إنزال القرآن بصفته المقروءة المعلنة يحمّل المؤمنين جميعهم مسؤولية الدين، ويخرج الدين من حالة الاحتكار في دوائر نخبوية إلى عوام الناس، ويلغي عن الكتاب السماوي صفة الامتياز لطبقة ترى نفسها أولى من بقية الطوائف بما خصها الله به من علم.
لقد انتقد القرآن الكريم الأمية والجهل التي عاشها ويعيشها أهل الكتاب في التوراة والإنجيل، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّون ﴾ البقرة (78)، حيث تنتقد الآية الشريفة من وسمتهم بالأمية على جهلهم بكتابهم المنزل، فبدلاً من أن يتحصلوا على المعرفة والعلم بما جاء به من حقائق تراخت هممهم فيه وراحوا يرددون أناشيد الأمة الناجية وشعب الله المختار. وكان من نتاج تلك الأمية وذلك الجهل قبول كل ما ينسب في الدين دون تحقق، وأخذ الدين بما هو شائع لا بما هو مثبت في الكتاب وهذا تماماً ما تكمل الحديث عنه الآيات التالية للآية السابقة بقولها:﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ البقرة (79)، فلولا ذلك الجهل من عموم أهل الكتاب لما أتيح للعلماء منهم فرصة الكذب على الله والافتراء في دينه وترويج أكاذيبهم في الدين. أنت مسؤول عن نفسك، هكذا يخاطبنا القرآن الكريم وهكذا تريد منا الكتب السماوية أن نكون، يقول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ لقمان (15). وكما نلاحظ فإن الآية الشريفة تحول بين الإنسان ووالديه اللذين هما المصدر الأساس في التلقي والتعليم في شؤون الحياة والدين ، وتسلمه دفة قيادة سفينة نجاة نفسه بنفسه وليتحمل المسؤولية كاملة دون وصاية. وتشير الآية إلى العلم كمعيار في التلقي من سلسلة الآباء الممتدة عبر الأزمان والناقلة لأفكار وعقائد يختلط فيها الغث بالسمين، لتتوقف عند نقطة التمحيص، فلا يقبل الولد من والديه إلا ما كان معلوماً لديه من الكتاب، ولا يسمح أن يضيف في الدين ما يعكر صفاءه الخالص بما يهواه الأبوان وإن جاهداه في ذلك. قول نبي الله إبراهيم لقومه وهو فتى(ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون)؟ هو سؤال الحرية والذي لا ينتهي بظرف زمان أو مكان، ولا ينتهي بغياب صورة التماثيل، فالفكرة أعم، بل قد تتشكل مشكلة التماثيل بأشكال أخرى في أزمنة لاحقة، ولا يعالج تلك الأشكال المتبدلة إلا ذلك الوعي الإبراهيمي الذي يتساءل على الدوام عن صوابية الواقع ويبحث عن الأصل والمصدر. وآيات القرآن تخاطب الفرد على أساس أصالته في التفكير، وتذكّره بضرورة أن لا تؤثر قوة الأواصر والعلاقات عليه في اتخاذ القرار مع بقاء الإحسان مع المخالف، وتلغي حالة الثقة العمياء، وتشدد بأن يتخذ الإنسان قراره بناءً على العلم والمعرفة، لا أن يبقى جاهلاً مستسلماً لقدر التركيبة الاجتماعية التي نشأ وترعرع فيها. وحالة الوعي هذه هي ما ترقى بالفرد من حالة التبعية اللامسؤولة إلى الاتباع على بصيرة لكل ما يرد في الدين، وهو ما يُخرج المجتمع المؤمن من حالة التلقي الأعمى إلى حالة الوعي والرشد، فالوعي والمعرفة حصانة للدين، وسلامة له من تسلل الافتراءات فيه. لقد عادت حقائق الكتب السماوية بعد بعثة النبي محمد (ص) في صورة قرآن يقرأ، وصحف تتلى آناء الليل وأطراف النهار ، لتعيد للفرد حقه في الفكر والقرار والتمحيص بعد أن حاول محتكرو الكتب السماوية السابقة في سالف الزمان سلبها منه، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ المائدة(15). الدين ليس من ممتلكات أحدٍ الخاصة، إنه دين الله للعالمين، ولن تجني أي أمة من أمم الكتاب الخير العميم من كتابها السماوي وهو حبيس الأدراج والنخب، وإنما ترتقي به وتجني فوائد الدنيا والآخرة فقط حين تنزله من على الأرفف وتطلق سراحه من أسوار الوهم وتعيده مرة أخرى إلى موقعه الحقيقي في الصدور. إن الأمة التي أراد الله لها أن تكون حين أمر سبحانه بقوله:(فلتكن منكم أمة) لا تتشكل من القطعان البشرية الغارقة في الإغماء، والتائهة في غمرة الأوهام والتي تنعق بما لا تسمع، وإنما تتشكل حين يعود القرآن إلى الصدور بالوعي والنية الصادقة والمعرفة الحقيقية. الكتاب السماوي مسؤولية أهله بأن يحملوه في صدروهم وفي قلوبهم لا على ظهورهم، وأن يفقهوه لا أن يكتفوا بالأمنيات والظنون وما يروج من أكاذيب وأوهام.
نشر في :