مدونة حلمي العلق

روح القرآن

روح القرآن

يقول الله عز وجل :

﴿ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ۝ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ﴾ الإسراء [86]-[87]

تتحدث الآية المباركة عن العطاء الرباني الكبير المتعلق بالقرآن الكريم، وبيان الآية يقول: مهما يكن الإنسان فيما وصل إليه من خير في هذا القرآن، فإن الله قادر على الذهاب به! إذ لا ينبغي أن يشعر أحد بالاستغناء عن الله حين يقترب من آياته، فنحن في أحوج ما يكون إلى عطائه ومدده من أجل أن نتعلم الكتاب وحتى يبقى ما تعلمناه منه في صدورنا. والآية الكريمة تتحدث عن الذهاب بالذي أوحاه الله، وهذا هو العجيب، فإذا وصل الوحي، ووصلت الآيات، فكيف يذهب؟ وخصوصًا إذا اجتهدنا في الحفاظ عليه بكل الوسائل، سواء بالكتابة أو التوثيق أو ما شابه! الآية تقول إن الله قادر على محو كل ما أخذته من وحي! فسبحان الله، ثم لا تتمكن من استعادته بواسطة أي أحد كان، إلا أن يرحمك الله بفضل منه ورحمة.

هذا البيان الرباني يضع المتدبر والمتسمك بالقرآن في مقام الخائف من أن يخسر ما تعلمه من كتاب الله، أو أن لا يحظى بشيء منه أصلًا، لأن الآية الكريمة تسلبه القدرة على الإبقاء والحفاظ على ما وُهب من علم، وعليه هو يشعر أنه لا يملك شيئًا في الحقيقة، وأن أي اعتزاز أو اغترار بما يعلم هو بداية لزوال تلك النعمة. وهذا ما يُشعرنا أن هذا القرآن الكريم له ردود أفعال مباشرة مع متعلمه حسب إيمانه أو نواياه وتوجهاته، وأن المسألة الحقيقية من فهم القرآن لا تَكمن في حيازة العلوم لدى متلقيه بقدرِ ما يصل هذا المتلقي إلى روح القرآن التي تؤثر فيه وتجعل ولايته المطلقة له، وما يلفت النظر فعلًا أن هتين الآيتين المباركتين قد سبقتهما آية تتحدث عن الروح، يقول الله عز وجل:

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ الإسراء [85]

ثم يأتي بعد هذه الآية الحديث عن ما أوحاه الله عز وجل إلى نبيه بقولها :

﴿ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ۝ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ﴾ الإسراء [86]-[87]

نعلم من آية أخرى أن ما أوحاه الله عز وجل إلى نبيه (ص) هو روحٌ من أمره كما جاء في سورة الشورى:

﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ الشورى [52]

فحقيقة هذا الكتاب لا تتنزل إلا إذا تواصلنا مع روحه التي تحييه في قلوبنا، فإذا فُقدت تلك الروح، فقدنا الأساس للتعلم والتأثر والحركة، ولا يبقى بعد ذلك إلا الشكل خاليًا من المضمون، وكأننا نستلم جسدًا لا حياة فيه، فما فائدته؟! وما تأثيره ؟! نعم يمكننا التأمل في هذا الجسد، وأخذ أبعاده، تشريحه، لكنه في النهاية لا يتحرك ولا يؤثر في شيء، من هذا المنظور يمكننا أن نفهم آيات الذهاب بالوحي في سورة الإسراء، فهي تقول لنا إن الله أعطاكم الكتاب، ولكن روح هذا الكتاب يُعطيها لمن يشاء، فلا تتصوروا أبدًا أنكم قادرون بهذا الكتاب وحده أن تصلوا إلى شيء من دون الحصول على روحه التي أُعطِيها لمن أشاء!

وكأنه بهذا البيان يُبقي قُدراتنا العقلية والعلمية التي من خلالها نتمكن من الوصول لحقائق الكتاب وأسراره معطلة لا فاعلية حقيقية لها لحين عودة روح القرآن إلى قلوبنا، نعم هي قدرات مهمة وفاعلة، لكنها تعمل بالقاعدة والقانون فقط، أما القرآن فيفهم بتلك القواعد ولكن بعد أن يهبكم الله روح القرآن.

هذا الفهم يجعلنا فقراء أمام باب علم الكتاب، مسلوبي القدرة والإرادة ضعفاء لا نقوى على شيء، ويدفعنا لأن نجثو بين يديه سبحانه وتعالى بعد أن نخلع رداء الكبر والمكنة والقدرة، ابتغاء الحصول على تلك الروح التي بها نفهم، وبها نعلم ونتعلم، وبها نرقى ونرتقي، هذا الفهم يجعلنا في حالة المراقبة الجادة والجهاد المستمر والبحث الدائم في أنفسنا عن الذنوب التي يمكن أن تكون سببًا في منع تلك الروح القرآنية من أن تحل في فناء قلوبنا وأرواحنا، بل وتستحثنا للنظر في أي الأعمال التي تقربنا له عز وجل في هذا السبيل حتى نصل بها إلى مرضاته من أجل أن نبقي تلك النعمة فلا تزول، ولا يحجب عنا هداه ونوره.

حجاب القلب

هذا المعنى ليس بعيدًا عن آية هي في نفس سورة الإسراء والتي تقول :

﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً ۝ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ﴾ الإسراء [45]-[46]

الآية المباركة تتحدث عن الحجب الغيبي والرباني التي تصاب به بعض الفئات التي تستمع للرسول أثناء قراءته للقرآن، الآية تخاطب النبيَ محمدًا (ص) وتقول له أنت تقرأ القرآن وهناك من الناس من هو في جانبك ولكن لا تصله الحقيقة، ذلك لأنه لا يؤمن بالآخرة، إذ أننا نجعل بينه وبين هذا القرآن ﴿ حِجَاباً مَسْتُوراً ﴾ حجابًا يحجبه عن الآيات ويستر حقيقتها ومعناها عنه، وهذا ما يؤكد لنا معنى الروح التي استوعبناها في الآيات السابقة، فالآية لا تتحدث عن تعطل جهاز السمع المادي، فهو فاعل يعمل ويسمع الكلمات، ولكنه لا يعي ما تعنيه تلك الألفاظ من حقائق ومعاني، ولا تحدث في نفسه أي تأثير.

تأمل في الآية اللاحقة لها وهي تخصص الموقع الذي لن يتمكن من فقه ما يقال، وقد بدأت به قبل جهاز السمع الموقور، وهو القلب ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ﴾، حيث وضعت القلوب في أكنة وهي أغلفة تمنع وصول شعاع النور إليه، ثم يذهب إلى الآذان المادية ويوقرها بما يحجب عنها الصوت، في كناية عن عدم وصول تلك الحقائق للقلب، ثم يذكر واحدة من العقائد التي تبعد هذه الفئة عن كتاب الله بقولها ﴿ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ﴾، فهو النفور من اختصاص الحديث القرآني بالحديث عن الله وحسب.

هذا المفهوم يُخرج القرآن من المستوى المادي الذي نتعامل من خلاله مع بقية الكتب، وترفعه إلى مرتبة غيبية لنؤمن أنه رهن إرادة الله، لنبقى نحن تحت خشية الحرمان في أي لحظة إن نحن اتخذنا آياته هزوا، وإن لم نُعلي من مكانة هذه الرسالة المقدسة، لنحذر من أن نتعالم معه بمكر مع أنفسنا أو مع الآخرين. هذا الكتاب يطالبنا بالصدق في الاستسلام له، والتعامل معه بالانقياد والصفاء والإخلاص لنصل روحه التي هي من عند الله.