التقوى والإيمان بالغيب
التقوى هى منتهى الايمان، وهي من يوصل الإنسان لدرجة الإسلام التام، فمن أسلم لله فقد اتقى، والله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نتقي حتى نموت على التقوى وذلك هو التسليم لله سبحانه وتعالى.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾[1]
# التقوى
التقوى والوصول إلى درجة الإسلام التام لله أهم موضوع فى حياة المؤمن، فكيف ينجح المؤمن في التصالح بينه وبين الله؟ وكيف يصل للتقوى؟ يظن المؤمن ان التقوى شئ هين وبسيط ويمكن التهاون فيه على أساس أنه يتقى الله ما استطاع وحسب قدرته على التقوى في المواقف المختلفة، وهذا خطأ كبير! لقد جاء موضوع التقوى المجزأة أو حسب استطاعة المؤمن في موضوع خاص وهو موضوع التعامل مع الاولاد والزوجة، وهو الموضوع الذي طعن اليهود فيه الدين حين قالوا ليس لنا قدرة على تنفيذه، لانه فوق طاقتنا البشرية:
﴿ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [2]
هم الذين قالوا في هذا الموقف لقد سمعنا قولك من قبل، لكننا لم نقدر على تنفيذه، وبالتالي عصينا فراعنا في هذا الأمر والتمس العذر لنا، واسمع أحد غيرنا لم يسمع! ولقد أنذر الله المؤمنين من الوقوع في نفس المشكلة وقال لاتقولوا رعنا ولكن قولوا أمهلنا وأعطنا وقتاً حتى نسمع فيه مرة اخرى لعلنا نستسلم وننفذ أحكامك تماماً كما أمرت
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [3]
علينا أن نعلم أن الله سبحانه عندما كلف الإنسان لم يكلفه فوق طاقته لأنه سبحان لايكلف نفساً الا وسعها فلا عذر للإنسان في عدم الوصول للتقوى وللإسلام الكامل، والتقوى هي أول درجات الإيمان، وما تبقى هو درجه حتى تصل للقمه وللقرب من الله وتكون من المقربين. فهل هناك مفتاح للوصول الى التقوى؟ وهل هناك سبيل لبلوغ درجة المتقين؟ نعم جعل الله لك الله سبيلاً إن اتبعته ستكون لديك القدرة على تقوى الله حق تقاته وهو الإيمان بالغيب.
# الإيمان بالغيب
الإيمان بشيء غائب عن الأنظار هو أمر صعب جداً، فدائماً ما ينساه الإنسان لأن الله غائب عنه، ودائما ما ينسى الإنسان الغائب إلا اذا وجد الاتصال الدائم الذي لاينقطع. فما هو الايمان بالغيب؟ هو الإيمان بالله واليوم الاخر، الله غيب وليس شهاده، والآخره غيب وليست شهادة، فهل الإيمان بالغيب هو سبيل التقوى حقاً؟ نعم لقد نبهنا الله سبحانه وتعالى إلى ذلك فى أول سورة البقرة وفي أول كتابه العزيز:
﴿ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾[4]
وقد بين سبحانه الآيات التالية السبيل للإيمان بالغيب ولخصة في السبل التالية وهي أولاً الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾
من هنا يمكن أن نفهم أهم شيء في حياة المؤمن يجب عليه أن يعلمه ويعمل من أجله وبكل قوة وهو الوصول للتقوى من خلال هذه السبل البينة الواضحة من كتاب الله، هذا أهم موضوع يجب أن يشغل قلب المؤمن ويصل إليه وإلا هلك.
# العقل
يظن كثير من الناس أن الوصول للإيمان بالغيب يكون بالعقل الذى هو في رأس الإنسان، ذلك الجهاز الذى يدير وظائف الجسد الإرادية واللاإرادية، والحقيقة أن مخ الإنسان ما هو إلى جهاز يعمل على تخزين المواقف التي تربى عليها الإنسان ونشأ فيها، ويعمل على حفظ التركة التي يرثها الإنسان عن آبائه من أعراف وتقاليد و عقائد. عقل الإنسان لا يعمل بحيادية ولا يمكن له أن يميز بين الحق والباطل، فهو يعمل بالخبرة التي اختزنها، وميزانه في الحق هو موروثه عن آباءه، ومعقوله هو ما اعتاد عليه وحسب.
# القلب
لقد أودع الله سبحانه وتعالى قدرة التمييز بين الحق والباطل في القلب وليس في العقل، القلب السليم هو صاحب الميزان الصادق والمحايد، القلب هو جهاز التعقل الحقيقي، ونقصد بكلمة "العقل" جهاز الوزن الصحيح ولا نقصد به المخ الذي في رأس الإنسان،
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾[6]
لقد وضع الله سبحانه وتعالى مرجع صادق فى صدر كل إنسان، يمكنه من خلاله أن يزن به مسائل الدين وعقائده، وهي الفطرة التى خلق الله عليها الإنسان، والإيمان بالغيب ليس أمراً منطقياً ولايعرف بجهاز المخ، ولذلك يلحد الملحدون
(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)[7]
فإذا سلم الميزان فى صدر الإنسان ولم يفسد بسبب مرض القلب أو موته فسيحظى الإنسان بميزان سليم يعقل به لأنه ذهب إلى الله بقلب سليم. لقد أنزل الله سبحانه وتعالى الكتاب على ميزان فطري سليم، وخير القرآن لن يهبط إلا قلوب سليمة تزن بميزان سليم. لقد انزل الله الكتاب على القلوب، ولا يمكننا أن نتحصل على الإيمان بالغيب "بالمخ" ولا بحسابات فزيائيه، لكنه هدى ورضى من القلب و إحساس تستشعره النفس، يقول الله عن حقيقة الكتاب
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [8]
# الإنسان والإيمان بالغيب
رفض الإنسان الإيمان بالغيب على مر التاريخ، وأول رسالة على ملة ابراهيم كان على يد نبي الله موسى (ع) إلى بني إسرائيل، فارهقوه ارهاقاً شديداً بسبب عدم إيمانهم بالغيب، فكانوا في كل المواقف التي مرت عليهم يعبرون عن رفضهم التام لهذا الإيمان، على الرغم من مرورهم بأكبر آيه وهي فلق البحر، ومرورهم من خلاله لينجوا من فرعون وجنوده. على الرغم من تلك الآية العظيمة إلا أنهم حين مروا على أناس يعبدون أصناماً طلبوا من موسى (ع) أصناماً مثلها. وعلى الرغم من أن نبيهم بين لهم خطأ هذا الطلب إلا أنهم وبعد المرور بعدة تجارب ربانية وآيات بينة، أفصحوا لموسى بمكنون ما يرغبون فيه حتى يصلوا إلى الإيمان الذي يطلبهم موسى به، فقالوا " أرنا الله جهرة" . لقد كان رفضهم للإيمان بالغيب واضح بين، فما إن غاب موسى حتى صنعوا عجلاً له خوار، وخدعهم السامري قائلاً هذا الهكم وإله موسى، لقد حاولوا تجسيد الإله بسبب رفضهم الإيمان لقوى غيبيه.
# الإيمان بالغيب والفتن
قد نرى مؤمناً طائعاً لله فى أحكامه، ومتبع لشرائعه بكل دقة، ولكن عندما يفتنه الله في إيمانه يجد نفسه خارج منظومة الإيمان بالغيب، وإن لم يحصل على نجاة من عند الله بتذكرة ليعود إلى حظيرة الإيمان قد يجد نفسه خارج الإيمان في حظيرة الكفر. الإيمان بالغيب درجات، فدرجة منه هو ما يكون من المؤمن بالاستجابة إلى الأوامر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولكن الدرجة الأعلى والمطلوبة هو الإيمان الغيبي الصامد، ونقصد به الإيمان الذي يصمد أمام المواقف المختلفة في حياة الإنسان، فهل يصمد ذلك الإيمان في مواجهة الموت مثلاً؟ في القرآن الكريم مواقف عدة تبين مدى الضعف الذي يبديه المؤمن في المواقف الحاسمة والمصيرية، ومن تلك المواقف ماكان من بني إسرائيل مع ملكهم طالوت، فهؤلاء المؤمنين الذين طالبوا نبيهم بأن يرسل لهم ملكاً كي يقاتلوا في سبيل الله لم يصمدوا أمام الامتحانات اللاحقة.
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾[9]
وبغض النظر عن طبييعة الطلب والفتنة، ولكن علينا أن نتنبه هنا إلى أن هناك طائفة من الذين آمنوا لم يشربوا من النهر إيماناً وتصديقاً بطالوت، لم يشربوا وصاموا عن الشرب من النهر، وكانوا في عداد المؤمنين، وتجاوزا مع طالوت النهر، وكانت اللحظة الحاسمة والأخيرة في مواجهة جالوت، ففتنوا بقلة عددهم واختل إيمانهم بالغيب وقالوا "لاطاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده" ولكن الذين لم يختل إيمانهم بالغيب ثبتوا وواصلوا المسير مع طالوت، وهم الذين وصفتهم الآية " الذين يظنون انهم ملاقو الله كم من فئه قليله غلبت فئه كثيره بإذن الله والله مع الصابرين" ،حينها تذكر الذين تزعزع إيمانهم وطلبوا من الله أن ينجيهم من هذه الفتنه وقالوا " "ربنا افرغ علينا صبرا وثبت اقدمنا وانصرنا على القوم الكافرين".
# أهم هدف
إن كنا نسعى إلى إيمان لا يتزعزع ويثبت حتى نلقى الله به يوم القيامة، فعلينا أن نسعى جاهدين للحصول على الإيمان الحقيقي بالغيب، ذلك الإيمان الذي صادماً في الفتن قوياً أمام أعتى العواصف والزلازل. وإن كان هذا الهدف في أعلى قائمة أهدافنا الإيمانية، يبقى أن نسعى للبحث عن سبيل لتحصيل هذا الإيمان.
[1] سورة آل عمران آية (102)
[2] سورة النساء آية (46)
[3] سورة البقرة آية (104)
[4] سورة البقرة آية (1) و (2)
[5] سورة البقرة آية (3)
[6] سورة الحج آية (46)
[7] سورة الرحمن آية (7)
[8] سورة فصلت آية (44)
[9] سورة البقرة آية (249)