مدونة حلمي العلق

التحكيم

 | The-Quran-and-the-People-of-the-Book

مقدمة

درسنا في الحلقة السابقة البشارة التي وردت في التوراة والإنجيل ومن قبلها دعوة نبي الله إبراهيم، وعلاقة ذلك برسالة القرآن، فإذا كان بنو إسرائيل مُبَشرين بالنبي محمد في التوراة والإنجيل، ويعلمون أن نبي الله إبراهيم قد دعا بإرسال رسول في هذه البقعة الطاهرة، على أنهم هم أبناء نبي الله إبراهيم (ع) والذين ساروا على نهجه فهذا يعني أن رسالة النبي محمد هي رسالتهم التي يجب أن يؤمنوا بها وأن يصدقوها وينصروها.

وقد ختمنا الحديث في الحلقة السابقة بسؤال الانطباق بين القرآن والتوراة، وكان سؤالنا ماهو مدى انطباق هذين الكتابين؟ في العقائد والأحكام؟ إجابة على هذا السؤال واستكمالًا لهذا الموضوع نتحدث في هذه الحلقة عن عنوان لا يقل أهمية ويعتبر دليلًا على أن رسالة جميع الرسل هي رسالة الإسلام، في هذه الحلقة ندرس موضوع (التحكيم) الذي ذكر في القرآن الكريم في أكثر من موضع، وسيتبين لنا من خلال هذا التحكيم أن الأحكام والعقائد الواردة في التوراة والإنجيل هي ذاتها التي نزلت على نبي الله محمد (ص) في القرآن الكريم، مما يعني أن الانطباق تام وليس جزئي.

نقصد بالتحكيم هو طلب الحكم الديني والشرعي من النبي محمد من قبل أهل الكتاب، فقد كانت فرق منهم تتوجه له (ص) لطلب العلم في بعض الأحكام ، نطرح التساؤل: لماذا كانت تلك الطوائف تفعل ذلك؟ وما دلالة هذا الفعل، وكيف نفهم إجابة السؤال المطروح في هذه الحلقة في ضوء ما نفهمه من ذلك، لفهم هذا الموضوع ندرس في هذه الحلقة الآيات من سورة المائدة من آية (41) وحتى الآية (45).

التحكيم

يقول الله عز وجل :

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ المائدة [41]

الآية تخاطب النبي محمد (ص) وتتحدث له عن فئة تسببت له بالحزن حين بدأت تبتعد عن حقائق الرحمن التي أنزلت في القرآن، فبدأوا يسارعون بالكفر حسب توصيف الآية، والآية الكريمة تبدأ بمخاطبة الرسول بأن لا يحزن لذلك التسارع ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾، وَصفُ الآية بأنهم يسارعون في الكفر له دلالة هامة، وهي أنهم آمنوا بداية الأمر ولكنهم تراجعوا فيما بعد عن ذلك الإيمان إلى الكفر وبوتيرة متسارعة. الآية تحدد الفئة التي أدخلت الحزن في قلب النبي : ﴿منْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا ﴾ هؤلاء ادعوا أنهم مؤمنون ولكنهم لم يؤمنوا في حقيقة أمرهم بالكتاب ولا برسالة النبي، وتضيف الآية فئة هم الذين هادوا، وهم أهل الكتاب من الذين هم مؤمنون برسالة نبي الله موسى (ع).

ثم تكمل الآية مبينة سبب هذا التراجع في الإيمان، وسبب هذا التسارع في الكفر بقولها: ﴿سمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك﴾ ذلك لأنهم استمعوا للأكاذيب كثيرًا، والكذب متعلق بالدين، فتلك الأكاذيب كانت سببًا في الابتعاد عنه، فهي ضلالات ما أنزل الله بها من سلطان، ولأنهم أَعطوا أسماعهم لفئة أخرى لم تات للرسول ولكنها بدأت تراقب الأمر من بعيد من أجل إبعاد من آمن، وتصفهم الآية بأنهم "لم يأتوك" مشيرة إلى فئة متربصة تراقب عن بعد، وكان من المفترض أن تكون مع المؤمنين لكنها تأت.

﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ يقصد بذلك الفئة التي لم تأت للرسول، يبين عملها التخريبي في الدين بتحريف الكلم عن مواضعه في الكتاب المقدس، هم يعبثون بتغيير حقائق الكتاب بتأويل آياته إلى غير ما تتحدث فيه، فلا ينطبق نتيجة لذلك التأويل ما يقوله القرآن مع ما جاءت به التوراة، ووسيلتهم في ذلك هو إخراج الكلمات عن سياقها، من بعد أن بين الله عز وجل في القرآن المراد الحقيقي من تلك الكلمات.

﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾ تتحدث العبارة الكريمة هنا عن الفئة المتربصة التي لم تأت للرسول، مبينة أنها تعمل على صد الفئة التي آمنت منهم بالرسالة، بادعاء أن هذا الرسول لا ينطبق كليًا مع ماجاءنا في التوراة، وتشدد على الثبات على ما ورثوه من آبائهم، ولأن ما وروثوه لا ينطبق مع التوراة فقد عملوا على تحريف الكلم عن مواضعه ليكون لهم حجة على ما يدعون، يقولون لأصحابهم إن كان ما يقوله الرسول مطابقًا لما معنا فخذوا بكلامه، إما إن خالفه ولم يكن مطابقًا له فاحذروا وتراجعوا عن ما يقول، وقولهم "احذروا " كلمة ماكرة تشكك في مصداقية الرسول وتبث الريبة في دعوته.

وتختم الآية بقولها : ﴿وَمنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ يتواصل الحديث هنا عن الفئة التي اتبعت قول الفئة المتربصة والمشككة للرسول، وتبين أن الله عز وجل هو الذي أراد أن يفتن هؤلاء، لذا لم يطهر قلوبهم من الميل للهوى وحب سماع الكذب، وذلك لأنهم كانوا مترددون في إيمانهم، ثم تتوعدهم بالخزي في الدنيا وبالعذاب العظيم في الآخرة.

إذًا هذه الآية تتحدث عن فئة من أهل الكتاب آمنت برسالة القرآن، ثم بدأت تتراجع بعد بدء المقارنة بين ما لدى النبي محمد وما تقوله لهم بعض الفئات المشككة والتي لم تؤمن ولم تات للنبي لتعترف برسالته، وبعد هذه المقارنة بين الحق النازل في الكتب السماوية وبين الموروث، زاغت قلوبهم للباطل وانحرفوا عن رسالة القرآن الكريم بالتدريج، إلا أن نفس الآية أسمت ما كانوا يسمعونه في مقارنتهم برسالة النبي بالكذب.

هذا ما تتحدث عنه هذه الآية، ونريد بعد فهم موضوعها أن نركز على أنها كانت تتحدث عن الذين هادوا، وعليه يجب أن نلتفت إلى تداخل هذه الطائفة مع رسالة النبي بشكل مباشر، ونلتفت كذلك إلى المقارنة التي يجرونها أثناء اتباعهم للرسول، على أن الذي أبعدهم عن الرسالة هو الأكاذيب التي جعلت من القرآن لا يتطابق مع التوراة.

﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ المائدة [42]

﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ الآية تصف الفئة التي تسببت في حزن الرسول - في الآية السابقة - وتبين أنهم كثيرًا ما يعيروا أسماعهم إلى الأكاذيب، وإذا كان الكذب هو ما تسبب لهم في الكفر، فهذا يعني أنه كذب على الله في الدين بما يخالف ما أنزل الله:

﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ۝ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ ﴾ الزمر [32] – [33]

أما قوله تعالى "أكالون للسحت" فهذا معبر عن خلل في إيمانهم العملي والفعلي والذي يستند إلى أباطيل الدين.

تكمل الآية المباركة مخاطبة النبي بقولها: ﴿ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾، والآية تقصد أهل الكتاب بناءًا على ما فهمناه من الآية السابقة، ومجيئهم للرسول هو من أجل التحكيم في الدين، أي أخذ الأحكام منه في قضية ما! لأنها بعد ذلك تخيّر النبي بين أن يحكم بينهم أو أن يُعرض عنهم فلا يستجيب لطلبهم في التحكيم وما يسألون من أحكام، وفي هذا الإعراض كشفٌ لحقيقة ما يراه النبي منهم من نفاق، فهو إن أعرض عنهم فهو كمن يقول: لا حكم لكم عندي لأنكم لا تؤمنون بما أنزل الله، وإنما أنتم منافقون.

ثم تختم الآية المباركة بقولها: ﴿وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، مشيرة – ضمنًا - إلى شيء من المكائد التي قد يتوقعها الرسول منهم، فالآية تطمئنه من أنهم لن يتمكنوا من الإضرار به بعد إعراضه عنهم، أما إذا اختار أن يحكم بينهم فليحكم بالقسط، وليعط كل ذي حق حقه في الحكم.

مافهمناه من الآية السابقة آية [41] هو أنهم من أهل الكتاب، وأن منهم فئة آمنت، وفئة أخرى تشكك في صدق الدعوة من خلال المقارنة بما وجدوا عليه آباءهم ويدعون أنه من التوراة. أما في هذه الآية فتتحدث عنهم على أن فئة منهم يراجعون النبي محمد (ص) في الأحكام! والله يخبر النبي بأن مراجعتهم تلك مبنية على النفاق والتشكيك، ثم تخيّر النبي بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم.

لابد وأن يكون لهذا التداخل والتردد على النبي أساس عقائدي، فإن قلنا بأنهم أهل كتاب ولديهم أحكامهم الخاصة في التوراة، فالسؤال هو لماذا يأتون للنبي محمد صاحب الرسالة الجديدة للتحاكم عنده؟! ولماذا كان التشكيك في الرسالة على مبدأ انتقائي " إن أوتيتم هذا فخذوه"، اي إذا جاءكم بهذه الأحكام كما هو مطابق لما توارثناه فخذوا منه! الأمر الذي يؤكد ضرورة أن يكون هذا الرسول مطابق لما معهم حتى يؤمنوا به، وهذا يتوافق مع ما فهمناه في الحلقات السابقة من أنهم موعودون برسالة في التوراة والإنجيل، وعليهم أن يتبعوه وينصروه، فوسيلة تكذيبه تبين وسيلة تصديقه، فهم يقولون أنه غير مطابق للتوراة، بينما تبين الآية أن هذا كذب منهم، وهذا يؤكد أن القرآن يعتمد وسيلة التصديق وهي التطابق بين القرآن وبين من سبقه، وإذا كان الرجوع إلى الرسول هو التحاكم، فهذا يعني أن حكم القرآن هو حكم التوراة.

وهذا ما تؤكده الآية التالية :

﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ المائدة [43]

الآية المباركة تطرح التساؤل الاستنكاري: ﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ﴾ مؤكدة ما يمكن للمتدبر أن يفهمه من الآيتين السابقتين، بأن حكم التوراة وحكم القرآن واحد، فالآية تستنكر عليهم تحاكمهم للرسول مع وجود التوراة البينة بين أيديهم، وهي بذلك تبين سر ذلك التداخل الذي رأيناه في الآيتين السابقتين، بين أهل الكتاب والنبي محمد (ص) فالمسألة تكمن في البحث عن حكم الله، وحكم الله موجود في التوراة التي هي بين أيديهم كما هو موجود في القرآن الذي هو بين يدي الرسول.والآية تبيّن ضمنًا أن رفضهم لحكم القرآن لم يكن لو أنهم كانوا يأخذون بحكم التوراة، وبمعنى آخر أن التوراة كانت معطلة بين أيديهم، وأن القرآن كشف زيف تمسكهم بكتابهم التوراة، فالرسول محمد يطبق التوراة من خلال تطبيق القرآن، ولذا ختمت الآية بقولها ﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ فالآية تتساءل هنا: كيف يدعون أنهم يريدون حكمًا من عندك – يارسول الله - وهم يتولون عن حكم الله البين في التوراة.

في هذه الآية المباركة دلالات هامة ومحكمة في سياق ما نبحث فيه، الآية تنص بوضوح أنه سواء عليهم حكّموا الرسول -الذي يحكم بالقرآن الكريم - أو حكموا التوراة فالحكم فيهما واحد، لأن التوراة تنطق بحكم الله، والقرآن كذلك، والرسول مطابق لما جاء في الكتابين، والآية تستنكر تحكيمهم للرسول أو للقرآن لأنهم في الأصل لا يريدون حكم التوراة. وإذا دققنا النظر في الآية المباركة وجدنا أن الرسول إنما سينطق بحكم التوراة ولكن بلغة عربية، وما مجيئهم إليه إلا لأنهم يعرفون مدى صدقه ومدى انطباق حكمه مع أحكام الكتب السماوية، وهذا هو ديدن الرسل والأنبياء من قبله كما تبين الآية التالية:

﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ﴾ المائدة [44]

تبدأ الآية المباركة بالضمير المقدر لله عز وجل "إنا" : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ هو سبحانه الذي أنزل التوراة، والآية لا تخبر عن شيء لا يعلمه المؤمنين أو أهل الكتاب، لكنها تؤكد على نسبتها لله عز وجل وما أنزل فيها من خير وما تحمله من هدى ونور لمن اتبعها، وهذا التعقيب يأتي ليؤكد صدقها وصفائها من الأكاذيب التي قد تنسب إليها في محاولة المنحرفين عنها لتثبيت انحرافاتهم باسمها. ثم بعد هذا الإعلاء لمكانتها تنتقل الآية لتبيين دورها الفعلي الذي قام به النبيون من قبل: ﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ فقد كانت التوراة مصدر الحكم لدى النبيين والربانيين والأحبار، وقد كانت أمانة مستحفظة عندهم لذلك الغرض ولإيصالها للأجيال اللاحقة، شاهدين عليها وبها للحق.

ولقد شكل انحراف أغلب الناس عن التوراة في زمن النبي محمد تيارًا ضاغطًا على رسالة النبي محمد (ص) وعلى المؤمنين التابعين له، ولا غرو أن تكمل الآية بطمئنة المؤمنين ودعوتهم للثبات وعدم تبديل أي آية من آيات الله ولا حكمًا من أحكامه، وتدعوهم أن لا يخشو في ذلك الناس ﴿ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ﴾ وتختم بتعريفها لحقيقة ما يراه المؤمنون من انحراف على أنه الكفر، وفي هذا دعوة للمؤمنين أن لا يستبدلوا حكم الآيات برضا الناس، ولا يشتروا بها ثمنًا قليلًا ولأجل مكانة اجتماعية، وتدعوهم أن يلتزموا بهذا الطريق، لأن الذي لا يحكم بما أنزل الله فأولئك – عند الله – هم الكافرون.

﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ﴾ المائدة [45]

تبين هذه الآية المباركة حكمًا من أحكام التوراة، وتؤكد في خاتمتها أنه من لا يحكم بما انزل الله فإولئك هم الظالمون، كونها اشتملت على أحكام دقيقة جدًا في العدل، والسؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا: عندما قال الله عز وجل أنه كتب عليهم فيها – أي أهل الكتاب - أن النفس بالنفس ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ فهل تعطل هذا الحكم بعد نزول القرآن؟ وهل هذا يعني أن هذا الحكم لا يعني المؤمنون بالقرآن الكريم؟ وعلى أهل الكتاب أن يلتزموا بهذا الحكم، بينما لا يطبقه الذين يؤمنون بالقرآن؟ إذا كان الأمر كذلك فما معنى خاتمة الآية ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ﴾ فهل هذا الخطاب موجه لأهل الكتاب فقط، أم أنه لجميع من يؤمن برسالات السماء؟

خاتمة

نجد في هذه الآية المباركة تأكيدًا على فهم أن حكم القرآن هو حكم التوراة، ولقد تأكد لنا من خلال دراسة المقطع من الآيات في سورة المائدة من آية [41] وحتى الآية [45] حقيقة وهي أن موضوع التحكيم الوارد في هذه الآيات إنما جاء بسبب ادعاء الرسول أنه يحكم بما أنزل الله أي يحكم بالكتب السماوية، وهذا يعني أن حكم الكتب السماوية واحد لا يختلف مع تعاقب الرسالات، وإنما يحدث الاختلاف في الناس بسبب ابتعادهم عن كتبهم السماوية، وما ذهاب أهل الكتاب للتحكيم عند الرسول إلا لأن حكمه الذي في القرآن هو نفسه حكم التوراة.