مدونة حلمي العلق

لا تكونوا أول كافر به

 | The-Quran-and-the-People-of-the-Book

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

واقعنا الإيماني هو امتداد لحقب تاريخية سابقة، ولدراسة تاريخ الرسالات أهمية كبرى في فهم الواقع الذين نعيشه اليوم، كما ويعد قاعدة أساس لضبط التأويل الصحيح لكثيرٍ من الآيات المباركة، ولفهم تلك الحقيقة صافية نقية لابد من الرجوع للأصل الذي انبثقت منه وهو الكتاب السماوي، وبعد فهم تلك الحقيقة وتثبيتها من الكتاب المنزل يمكننا أن نفهم من خلالها نصوص الآيات بشكل أدق، ومن ذلك الفهم يمكننا أن ننتقل لفهم الواقع في الزمن الحالي.

القرآن الكريم هو حديث الله، والحديث يُفهم ببعضه البعض، وفقدان البوصلة وضياع الاتجاه الأصلي للحديث قد يجعل هذا الحديث المبارك مفتوحًا للتأويلات المختلفة، ولكن إذا ضبطنا اتجاه الحديث، تمكنا من تحديد مساره الحقيقي، ولكي نتمكن من ضبط اتجاهه علينا فهم النص كاملًا لا مجتزءًا بفهم مواضيعه العامة واستيعاب تاريخه، ولكي نحقق ذلك علينا أن نفهم مواضيع الآيات من الآيات نفسها، وأن نفهم تاريخ القرآن من القرآن ، وبعد ذلك الفهم يمكننا أن نحدد المسار الصحيح وأن نوجه فهمنا للنص نحو تلك المواضيع وضمن سياق ذلك التاريخ.

نستخلص تلك الحقائق من القرآن كونه الحق الثابت الذي يُمكن أن نعرض عليه حقيقة مايرد من المصادر الأخرى، ولأنه حفظ تاريخه بذكر كثير من الأحداث، ولا بد وأن يكون لتلك الأحداث أهمية تعين على فهم كثير من الحقائق الربانية، وعليه يمكننا أن نفهم القرآن بالقرآن، وبعد ذاك يمكننا أن نفهم المصادر الأخرى على أساس هذا الفهم تطبيقًا لقاعدة "العرض" والتي تعني عرض الموجود على القرآن، فما وافقه أخذنا به، وما خالفه لم نأخذ به.

بقولنا أن للقرآن تاريخ من القرآن نفسه نفتح أفقًا واسعًا نتطلع من خلاله إلى الأحداث التاريخية السابقة والمزامنة لنزول القرآن، وما تلاها من فتن، وهذا التاريخ يضع نصب أعيننا الظروف الاجتماعية والإيمانية التي رافقت ذلك التنزيل المبارك، وماعلاقة تلك الأمم بدياناتها المختلفة برسالة القرآن، لكننا سنخصص هذه الحلقات بإذن الله لدراسة علاقة أهل الكتاب برسالة القرآن الكريم.

في بداية رحلتنا لفهم تلك العلاقة نتساءل عن علاقة بني إسرائيل برسالة القرآن الكريم! وعن علاقته بالتوراة! ونطرح السؤال : لم يوجه القرآن الكريم ومن بداية سورة البقرة خطابه المباشر لبني إسرائيل؟

للإجابة على هذا السؤال ندرس في هذه الحلقة آيتي (40) – (41) من سورة البقرة للتعرف على جانب من تلك العلاقة.

لا تكونوا أول كافر به

يقول الله عز وجل :

﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ۝وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ البقرة [40]-[41]

الخطاب في الآية الكريمة لبني إسرائيل، ونعلم أن بني أسرائيل هم أبناء يعقوب (ع)، ويعقوب ابن اسحاق ابن نبي الله إبراهيم (ع)، فهو يخاطب بني إسرائيل بالخصوص، ولا يخاطب أي أمة أو أي قبيلة أخرى، وهذا الخطاب يقع في مستهل سورة البقرة المباركة، في هذه البداية يخصص الخطاب لهم. فلماذا هذا التخصيص؟

يبدأ في الآية الأولى بتذكيرهم بنعمة انزال التوراة عليهم، ويشير لها على أنها عهدهم مع الله عز وجل، ثم يذكرهم بضرورة الوفاء بالعهود التي نصت عليها التوراة، وأنه عز وجل سيوفي عهده معهم كما جاء في الكتاب المقدس من وعود في الدنيا والآخرة إن هم أوفوا بعهدهم مع الله بتطبيق ما أمرهم به. ثم يأمرهم بالإيمان بما أنزل الله على نبيه محمد (ص) مصدقًا لما معهم، ثم تأت العبارة القرآنية " ولا تكونوا أول كافر به" محذرًا إياهم من الكفر بهذه الرسالة، مؤكدًا بقوله عز وجل " ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا وأياي فاتقون" فقد يفتتنوا بما بين أيديهم من نصوص تخالف لما أمر الله، فيستبدلوا بها كلام الله، فيكون ذلك بمثابة بيع للآيات بثمن قليل.

ثم في آية متقدمة يذكرهم بفضله عليهم بقوله :

﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ البقرة [47]

في هذه الآية يذكر الله عز وجل بني إسرائيل بأنه فضلهم على العالمين، لأنه أنزل هداه وكتابه التوراة عليهم، فما سر هذا التفضيل؟! ولماذا يذكرهم به؟ في سياق حديثه عن الإيمان بالقرآن الكريم ودعوة النبي محمد (ص).

هذا التساؤل يقودنا إلى الحديث عن نبي الله إبراهيم (ع)، وبالخصوص في الآيات المتقدمة من نفس السورة، وفي نهاية الجزء الأول من القرآن، حيث يتواصل الحديث عن بني إسرائيل، ليتبين أن الحديث عن ملة إبراهيم إنما هو إتمام للحديث عن بني إسرائيل، وذلك لعلاقتهم الوطيدة بالملة، ولأنهم أبناء العهد وأبناء نبي الله إبراهيم (ع) فهو الذي طلب من الله عز وجل أن تكون الإمامة في ذريته.

يقول الله عز وجل :

﴿ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ البقرة [124]

نلاحظ في هذه الآية المباركة أن نبي الله إبراهيم يطلب من الله عز وجل أن يجعل له ذريّة ويجعل الإمامة فيها ﴿ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ ، ونلحظ كذلك أن العهد لازمة تلك الإمامة ﴿ قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ ، فعندما طلب الإمامة لأبناءه من بعده، كان لابد للإمام أن يحصل على العهد حتى يكون إمامًا، والله عز وجل يبعد العهد عن الظالم منهم إذ لا يحق له أن يناله ذلك العهد، وبالتالي لن يكون إمامًا، والعهد هو ذاك الذي تحدثت عنه الآية (40) وذكّرت بني إسرائيل به، ونعلم أن العهد هو ميثاق بين اثنين أو طرفين، وفي الآية المباركة ينسب الله عز وجل العهد لنفسه فيقول ﴿ عهدي ﴾، والكتاب المنزل هو عهد الله، وبخصوص الحديث عن بني إسرائيل، تكون التوراة هي عهده عز وجل إليهم. والإمامة في الدين لا تكون بدون كتاب منزل، فهو مصدر الدين والحقيقة، ونيل ذلك العهد يعني نيل هداه وحقائقه لتبين للناس ولكي يحكموا بها.

من هنا يتضح الترابط بين بداية السورة التي تحدثت عن بني إسرائيل ونهاية الجزء الأول الذي تحدث عن نبي الله إبراهيم وعهده مع الله، فبني إسرائيل هم أبناء نبي الله إبراهيم من فرع ابنه اسحاق، فهم أبناء العهد وأبناء الملة، ومنهم بعث الله عز وجل الأنبياء والأئمة الذين التزموا وتمسكوا بملة أبيهم إبراهيم ودعوا الناس إليها، طيلة المدة الزمانية التي سبقت بعثة النبي محمد (ص) ونزول القرآن الكريم.

إذًا هم مفضلون على الناس كونهم أبناء إبراهيم الذين أنزل فيهم الكتاب ويتحملون مسؤولية الدعوة إليه، وهم الذين جعل الله فيهم الكتاب والنبوة، ولقد كانوا على انتظار نبوة خاتمة حسب ما ورد في كتاب التوراة، ولكن النبوة حين جاءت على خلاف توقعهم في أن تكون فيهم، ونزلت على النبي الأمي القرشي محمد بن عبدالله، تكبروا عليها، ورفضوا الإذعان لها، فنزول الرسالات تترى من بني إسرائيل جعلهم يعقتدون أن الفرع الثاني من نسل إبراهيم (ع) عن طريق إسماعيل لا تأتي فيه الرسالة، لأن أبناء هذا الفرع أميون لا يعلمون من الكتب والرسالات شيئا، ولكن المفاجاة كانت في أن أنزلها الله على رجل من قريش الذين لم يأتهم نذير من قبل هذا، وتلك كانت هي فتنتهم.

كان المطلوب من بني إسرائيل نصرة هذه الرسالة وتصديقها ودعوة الناس إليها، ولكن الذي حصل هو أن فريقًا منهم تولى عن هذا الدور بل اتخذ دورًا مغايرًا بأن حارب الرسالة وحاول إسقاط شرعيتها وإفسادها ومحاربتها.

في ظل هذا الفهم المقتضب لموقع بني إسرائيل في الملة كونهم أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين يمثلون العهد، يمكننا أن نعود للآيات السابقة التي افتتحنا بها هذا الدرس، للسؤال عن طبيعة الأمر الرباني لهم " لا تكونوا أول كافر به" ، كيف نفهم هذه العبارة في ظل فهمنا هذا؟

لماذا خاطب الله بني إسرائيل بداية سورة البقرة؟

﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ۝ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ البقرة [40]-[41]

﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ ﴾ الخطاب رسالة ربانية مباشر إلى طائفة محددة يسميها القرآن:"بني إسرائيل" ، والآية المباركة خاطبت القوم بلا واسطة، إذ لم توجه الخطاب للنبي بقولها : "قل"، وإنما وجهت الخطاب لهم مباشرة، مما يشير إلى معرفتهم العميقة بالخطاب الرباني وقربهم منه، وأن الرسالة قد تغلغلت أعماق وجدانهم وشعروا بها، لتبقى حجة بالغة ومن كفر بعدها ينال من الله ما يستحق.

ثم إن الآية تأمرهم بالإيمان بما أنزل الله، والمقصود به هو "القرآن الكريم" عن طريق نبيه الكريم محمد (ع)، مؤكدة أن هذا الكتاب مصدق لما معهم، فدلالات صدقه بينة بالرجوع للمرجع الأساسي الذي هو بين أيديهم وهو التوراة، فالتصديق دليل على صدق الدعوة وصدق الرسالة وأنها ليست مفتعلة كما قد يذهب بعضهم فينكرونها على هذا الأساس، بل إن دواعي التصديق بها منطلقة من المصدر الذي تؤمنون به وهو التوراة.

ثم تأمرهم بقولها ﴿ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ إذ لا ينبغي بعد تحققكم من صدق الدعوة – المنتظرة – أن تكونوا أنتم من ينكرها، إذ كيف يكون ممن يبشر برسالة وينتظرها ويستفتح على الذين كفروا بها ، ثم إذا جاءته رفضها رفض من لا يعرفها، وينقلب عليها، إلا إذا كان يعيش الاستكبار في نفسه.

الضمير في العبارة المباركة ﴿ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِه ﴾ عائد إلى القرآن، أي لا تكونوا أول كافر بالقرآن الكريم وبدعوة النبي محمد، هي بهذه الصياغة تأمرهم ضمنًا بأن يكونوا أول من يؤمن! وتضيف لهذا المعنى معنًى آخر وهو التحذير من الوقوع في صفة "أول كافر"، فهذه الصفة علاوة على أنها معيبة في حقهم، فهي تجلب لهم اللعنة والغضب الرباني، لأنهم حملة ملة إبراهيم ويعرفون حقيقة النبوة كما يعرفون أبناءهم، ويعلمون العهد الذي بينهم وبين الله، والذي بدأ مع أبيهم إبراهيم (ع)، ويتحملون مسؤولية تأييد الرسالة أمام الناس.

فالعبارة المباركة ﴿ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِه ﴾ تؤكد مكانتهم في الدين وعلاقتهم برسالة القرآن، وتشدد على ضرورة تفعيل دورهم في نصرة هذه الدعوة الربانية الجديدة، ويترتب على هذا الفهم أنه لا يمكن أن نفصل بين القرآن الكريم والتوراة، بل يمكننا أن نقول أن القرآن الكريم هو شعاع منبثق من ملة إبراهيم، وامتداد طبيعي للتوراة التي أنزلت من قبل في جميع جوانبها.

تختم الآية بالتحذير : ﴿ َلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ ونلاحظ في هذه العبارة صيغة الخطاب المباشر من الله عز وجل إليهم، وكأنهم على علم بهذا المتحدث وهذا الخطاب، ثم نلحظ صيغة التحذير، هو تحذير من بيع الكتاب ليكون ثمنه هو علوهم الدنيوي الواهم والمزعوم.

هذا المقطع يكشف عن لحظة تاريخية حدد فيها كل فرد من بني إسرائيل ممن لديه العلم بالتوراة اتجاهه مع الله، فمن أذعن للآيات واعترف بصدقها فقد نجح في الاختبار وتجاوز الفتنة، وإن غلبت عليه شقوته وتكبر وأنكرها فقد اشترى الدنيا مقابل آيات الكتاب. إنهم حين يديرون ظهروهم عن آيات الله المنزلة، إنما يبيعونها من أجل مجدهم وسؤددهم وسيادتهم على بقية الطوائف والقبائل، فلا يريدون أن ينزلوا للإيمان بدعوة لم تكن تبعث منهم.

نعود إلى أصل سؤال الحلقة: ماعلاقة بني إسرائيل برسالة النبي محمد (ع)، وفي معرض الإجابة نقول أن لبني إسرائيل علاقة وطيدة بهذه الدعوة، فهم على ملة إبراهيم، وقد أنزل الله عز وجل التوراة بيد موسى (ع)، واليوم تأتيهم دعوة على يد النبي محمد (ص) على أساس نفس الملة، ومصدقة للتوراة، والآية تقول لهم "لا تكونوا أول كافر به" ، لأنهم على موعد مسبق معها، ولعلمهم المسبق بالملة وبما فيها من أحكام وعقائد وقصص، وعلى علم بتاريخ الرسالة، فكان لزامًا حين تأتي الرسالة المصدقة لما معهم أن يكونوا أول من يؤمن لا أول من يكفر.