الذين أوتوا الكتاب
| The-Quran-and-the-People-of-the-Book# مقدمة
تحدثنا في الحلقة السابقة عن الأمر الرباني لأهل الكتاب بإقامة التوراة والإنجيل، وتوصلنا إلى نتيجة هامة وهي أن هذا الأمر لا يختلف عن الإمر بالإيمان برسالة القرآن والدخول في الإسلام، لأن نتيجة إقامة القرآن لن تختلف عن نتيجة إقامة التوراة.
وقد مررنا خلال حديثنا بالآية الكريمة التي امتدحت طائفة من أهل الكتاب على خلاف الأغلبية، حيث امتدحت فيهم قيام الليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا المدح لا يكون إلا إذا كانوا مقيمين للتوراة والإنجيل.
﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ آل عمران [113]-[115]
إن إيمان طائفة من أهل الكتاب بالقرآن الكريم وانسجامهم معه دليل آخر على أن ماجاء في القرآن من أحكام وشرائع وعقائد لا تختلف عما جاءت في التوراة، ولقد سجل لنا القرآن الكريم مواقف لفرق منهم آمنت بالرسالة، وتنوع ذلك الإيمان بين الإيمان الاعتيادي الذي يحتاج إلى تفكير وتأمل إلى الإيمان المباشر واللحظي الذي يسبق كل تفكير وتأمل لما وجد في القرآن من حقيقة لايمكن دحضها أو إنكارها. نقف عند وصف القرآن لإيمان أهل الكتاب، وحكم الجدال مع الذين يستحقون الجدال، ثم نستعرض مستويين من إيمان أهل الكتاب حسب وصف القرآن الكريم.
# الذين أوتوا الكتاب
يقول الله عز وجل في نفس سورة آل عمران :
﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ آل عمران [199]
تشير الآية الكريمة إلى فئة من أهل الكتاب تؤمن بالله وتؤمن بما أُنزل إلى النبي، ويؤمنون كذلك بما أًنزل إليهم ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ ﴾ هم يجمعون بين إيمانين، إيمان بالتوراة وهم على علم بها ، وإيمان بالقرآن، ولا يمكن لهذه الفئة الجمع بين الإيمان بكتابين إلا إذا كانا متطابقين، فلو كانت أحكام القرآن غير متطابقة مع التوراة لما اجتمع إيمانهم به مع الإيمان بالقرآن، ومن هذا ندرك أن الله عز وجل عندما أمرهم أن يؤمنوا برسالة القرآن، لم يأمرهم أن يلغوا أحكام التوراة مع ذلك الإيمان، لكن تطابق الكتابين هو الذي دفعهم لهذا الإيمان، وهذا ما تؤكده نفس الآية ﴿ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ خاشعين لله من خوفهم منه لم يستبدلوا أحكام التوراة بغيرها، بل ثبتوا عليها ولذا أقروا بصدق القرآن. ثم تؤكد الخاتمة أن الله سبحانه وتعالى سيثيبهم على ثباتهم هذا، وعلى تصديقهم بدعوى القرآن ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾.
على هذا فإن هذه الآية تقول أن هذه الفئة من أهل الكتاب تقيم كتابها وهذه الإقامة كانت سببًا لها في الإيمان بما أنزل على الرسول، لأن ما جاء به الرسول هو مصدق لما معهم، بل إن المؤمنون الذين اتبعوا الرسول يؤمنون بالقرآن وبما سبقه من الكتب كما نعلم، وهذا الإيمان إنما هو إيمان تطابق وليس إيمان بتصديق أن الكتاب منزل من عند الله وحسب، فإيمان التطابق هذا هو ما يعني بأن الإله واحد، كما تنص على ذلك بعض الآيات:
يقول الله عز وجل:
﴿ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ** وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاء مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ ﴾ العنكبوت [46]-[47]
الآية الكريمة تتحدث عن الجدال مع أهل الكتاب، وقد سبق الحديث عن هذا العنوان المهم والذي يدل على تداخل أهل الكتاب مع رسالة القرآن الكريم، وقلنا بأن الجدال لا يمكن أن يكون إلا إذا كان المبدأ أن الحكم واحد لا يتغير، وأن القرآن جاء مصدقًا لذلك الحكم ﴿ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ فالآية الكريمة توجه المؤمنين بأن يكون جدالهم مبني على الإحسان مع أهل الكتاب، ثم تستثي الذين ظلموا، وهم أولئك الذين اتبعوا غير ما أنزل الله فلم يعد الكتاب حجة مشتركة بينكم، فإذا كان الأمر كذلك فلا جدال بينكما!
وتعطف الآية بقولها ﴿ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾، هاهم المؤمنون يقرون بإيمانهم بالكتابين ( التوراة والإنجيل )، ويقولون في مقام الجدال بإن الإله واحد، فإذا كان الإله واحد فالحكم يجب أن يكون واحد، ومن يطبق ما أنزل الله فهو له مسلم، وها نحن كما ترون نطبق ما أنزل الله، ولا ننتسب إلى الكتاب بالادعاء فقط.
أما الآية التالية فتبين أن الذين أوتوا الكتاب يؤمنون به ﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِه ﴾ وهذا أمر يؤيد مبدأ التطابق بين الكتابين، فلو لم يكن القرآن مطابقًا لما سبقه لما كان مدعاة للإيمان به من قبلهم، وعليه يكون الكفر بالقرآن هو دلالة على الكفر بالتوراة، وهذا الذي تشير له خاتمة الآية ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ ﴾، أي ما يجحد بآيات القرآن من أهل الكتاب –المشار إليهم في الآية - إلا الكافرون بآيات التوراة في الأصل.
لقد كان نزول القرآن الكريم نقطة فاصلة فصلت بين المؤمنون بالكتاب والكافرون به، وقبل نزوله كان أهل الكتاب يدعون أنهم أهل كتاب وأنهم سائرون على منهجه، وحين جاء القرآن فصل في هذه الحقيقة، فميز المؤمنين بالرسالات السائرين على نهجها ممن هم يدعون ذلك ادعاءًا وانحرفوا عنها. وكما تنوع الكفر بالقرآن الكريم، تنوع كذلك الإيمان به وطرق الدخول إليه، فمنهم من بدأ بالسؤال وقد عبرت عن ذلك بعض الآيات التي كانت تقول: يسألونك، حيث كان هدف السؤال هو معرفة مدى تطابق علم القرآن بما جاء في التوراة، ومنها على سبيل المثال السؤال عن الأهلة.
﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ القصص [51]-[54]
يقول الله عز وجل أنه وصّل قول القرآن لأهل الكتاب، وكان ذاك عن طريق النبي محمد (ص)، هو الرسول والمبلّغ لرسالات ربه عز وجل، وقد بلّغ ما حمل من أمانة لهم ﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾، ثم يتحدث عن فئة منهم هم الذين قال عنهم القرآن أنهم أوتوا الكتاب، ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾هذه فئة منهم أوتيت الكتاب أي أوتيت علمه، من قبله أي من قبل القرآن، "هم به يؤمنون"، أي يؤمنون بالقرآن.
تبين هذه الآيات المباركة طريقة استقبالهم للقرآن حيث كانت على أساس الإيمان المباشر لأن إحساسهم لا يخطئ في كونه كلام الله،﴿ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾ إذا يتلى عليهم القرآن يعلنون إيمانهم به، ويشهدون بأنه الحق، ذلك لأنهم كانوا ومن قبل أن ينزل القرآن يسيرون على نفس النهج من أحكام وعقائد " إنا كنا من قبله مسلمين " أي كنا من قبل أن ينزل القرآن مسلمين لله بالامتثال لأوامره التي جاءتنا في التوارة والإنجيل.
﴿ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ هذه الفئة التي أسماها القرآن الكريم بأنهم أوتوا الكتاب لها أجر مضاعف لشهادتها على صدق القرآن الكريم، والآية تقول أنهم يؤتون أجرهم مرتين، مرة لثباتهم على التوراة، وأخرى لإيمانهم بما أنزله الله في القرآن الكريم.
هذا هو الشكل الثاني من إيمان فريق من أهل الكتاب، وهناك فريق آخر أسرع وأقوى إيمان أولئك الذين كانوا يخرون للأذقان سجدًا لحظة استماعهم للقرآن الكريم.
﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ﴾ الإسراء [106]-[109]
تتحدث هذه الآية المباركة عن الذين أتوا العلم من أهل الكتاب وتصف طبيعة استقبالهم للقرآن، تبدأ بتوجيه الخطاب لمن جحد بهذه الآيات وكفر بها ﴿ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ﴾ وكأنها تقول آمنتم أم لم تؤمنوا، إنكاركم لهذه الرسالة لايضعفها، فهناك من آمن به من لحظة سماعه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً ﴾، هم لا يعبرون عن إيمانهم بشكل عادي بل يعبّرون عنه بسجود خاشع تلقائي في ذات اللحظة لأنهم أيقنوا بأن الله قد خاطبهم، وصدق وعده الذي كانوا ينتظرونه لقرون. هاهم يستقبلون وعد ربهم ساجدين مسبحين له ﴿ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ يسبحون الله لأنهم أدركو وبدون فاصل في الوقت والتفكير فيه أنه قد صدق وعده في إرسال النبي الموعود، وإن طال الزمان وبعدت المدة ﴿ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ﴾.
# خاتمة
لقد رأينا أن القرآن الكريم يتحدث عن فرقة من أهل الكتاب تؤمن بما أنزل على الرسول كما جاء في نهاية سورة آل عمران، وفي مواقف الجدال يبين للمؤمنين كيفية الجدال معهم، ورأينا أن المؤمنين يقرون بالإيمان بالتوراة، ولم يكن إيمانهم إيمان تطابق في الأحكام لما حدث الجدال، ثم رأينا كيفية إيمان بعض أهل الكتاب بالقرآن الكريم وعلى مستويين الأول هو الإقرار بالإسلام قبل نزول القرآن، والثاني هو السجود لله أثناء سماع آيات الله تتلى عليهم.
تفاعل الذين آمنوا من أهل الكتاب مع إنزال القرآن الكريم، فإذا كان هذا تعلقهم بهذه الرسالة وهم في ذات الوقت متمسكون بكتابهم التوراة والإنجيل فهذا يزيدنا قناعة بان القرآن مصدق للكتب السماوية السابقة تصديقًا تامًا لانقص فيه، وإيمان من آمن دليل وشاهد آخر على ثبوت الأحكام والشرائع والعقائد في كتاب القرآن الكريم وانطباقه مع ما سبقه من الكتب السماوية وخصوصًا التوراة.