مدونة حلمي العلق

الغدو والآصال

 | times-of-the-day

تحدثنا في الحلقة السابقة عن وقت العشاء، ونكمل الحديث عن أوقات اليوم ونتحدث عن وقتي الغدو والآصال، الغدو والآصال هما وقتان متماثلان كما هو الحال بالنسبة للفجر والعشاء، نشاهد ذلك من خلال عمود الضياء الذي تعرفنا عليه في الحلقات السابقة، ثم نذهب للتعرف على لفظتي الغدو والآصال من القرآن، وأخيرًا نقف عند تحديد بداية ونهاية هتين الفترتين.

الغدو هو إقبال الشمس ، أما الآصال فهو إيابها ورجوعها، وفي الفترتين يتراوح ظل الأشياء في كلا الاتجاهين تبعًا لحركة الشمس. نتعرف أولًا على استخدام القرآن الكريم لكلمتي الغدو والآصال.

يقول الله عز وجل :

**﴿**وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ سورة آل عمران (121)

الآية تخاطب النبي وتتحدث عنه حين أقبل على المؤمنين ليعدهم للقتال وتقول : "وإذ غدوت" أي أقبلت من أهلك إلى موقع القتال "تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال" كي تجهز المؤمنين وتضعهم في مواقعهم استعداداً للمواجهة، إذًا الغدو مطلقًا هو حركة الإقبال إلى نقطة أو موقع ما.

والغدو الخاص باليوم، هو فترة زمانية منسوبة لحركة الشمس حين تتحرك من طلوعها حتى بلوغها أعلى السماء. أما الآصال: فهو الفترة الزمانية المنسوبة لحركة الشمس حين تعود خلالها إلى أصلها. يقول الله عز وجل:

(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)) سورة الحشر

جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن غزوة من غزوات المسلمين، وتخبرهم بأن كل ماتقومون به هو بإذن الله، تقول الآية: "ما قطعتم من لينة" اللينة هي الشجرة الصغيرة اللينة أو النبتة القابلة للاقتلاع، والآية تبين أنه حتى قطع الأشجار أو النباتات في طريقكم لهذه الغزوة هو بإذن الله، أو حتى إذا تكرتموها فهو بإذن الله أيضًا: "أو تركتموها قائمة على أصولها"

لقد استخدمت الآية كلمة "الأصل" للدلالة على جذور هذه الأشجار أو النباتات، "أو تركتموها قائمة على أصولها" أي تركتم الشجرة كما هي قائمة على جذورها ولم تقتلعوها، ولهذا الاستخدام معنى نريد أن نستفيد منه في معرفة الآصال، فلو افترضنا وجود شجرة كبيرة وأراد أحدهم أن يتسلقها ، فإنه يبدأ من أصلها صعودًا حتى يصل إلى القمة، ثم إذا نزل ينزل بالتراجع مرة أخرى إلى الأصل. وهذا تمامًا ما يحصل للشمس، فهي تعلتي في القسم الأول من النهار إلى القمة، ثم تعود إلى ما كانت عليه أي تعود إلى أصلها وهو نفس المستوى الذي كانت عليه، ولأن الشمس اعتلت إلى الأعلى درجة بعد درجة في فترة الغدو، كذلك حين تعود تعود درجة بعد الأخرى لذا سميت تلك الدرجات التي تمر بها الشمس وهي راجعة بالآصال وهي جمع أصل.

إذًا الآصال كوقت هو الفترة الزمانية التي تعود فيها الشمس إلى أصلها الذي كانت عليه بعد وصولها إلى أعلى ارتفاع في السماء، حيث تعود من القوة إلى الضعف الذي كانت عليه مرة أخرى.

بعد هذا التعريف نذهب الآن لتحديد بداية ونهاية هتين الفترتين.

بداية الغدو ونهاية الآصال

الغدو والآصال هما وقتان متعلقان بالشمس ويظهر فيهما ظل الأشياء، ففي الغدو يقوى الظل وينقبض فيصل إلى أقصر طول تبعًا لتحرك الشمس إلى أعلى نقطة في السماء، أما في الآصال فيتغير اتجاهه ويعود في التمدد والضعف مرة أخرى. ويمكننا أن نحدد بداية ونهاية وقتي الغدو والآصال من خلال فهمنا لارتباط هتين الفترتين بالظل.

عندما تطلع الشمس من جهة المشرق تكون ضعيفةويمكن النظر إليها مباشرة بالعين، ولونها مائل للأصفر الذهبي ولا وجود للظل بسبب ضياءها الضعيف.

يقول الله عز وجل في قصة أهل الكهف :

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَّزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً) الكهف 17

الآية تقول واصفة وضع أهل الكهف أنهم في فجوة وأن الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وفي الجهة المقابلة إذا غربت تقرضهم ذات الشمال، وهنا نريد أن نقارن بين الحالتين، الأولى مزاورة الكهف، الثانية قرض الشمس.

قرض الشمس هو أثر سطوة حرارتها على الأجساد، فحرارة الشمس تؤذي الأجساد ويشعر الإنسان كأن كائن حي من القوارض يأكل في جسده، وقد هيئ الله لهم أن يكونوا في وضع يصلهم ضوء الشمس في الفترة الثانية من النهار. في المقابل تقول الآية وهو ما نريد أن " وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم" كلمة التزاور أصلها تتزاور، والزيارة هي الميلان عن جادة الطريق لوقت قصير، فزيارة الأهل والأصدقاء هي الانعطاف نحو منزل أحدهم ثم مغادرته بسرعة. ولهذا يلحق بالكلمة كلمات أخرى مثل: زيارة سريعة أو خاطفة أو مختصرة.

قوله تعالى تزاور أي تطل حين الطلوع على الكهف لمدة قصيرة ثم ترتفع إلى أعلى وتختفي لأنها تزور عن الكهف أي تميل عنه، وهذه الزيارة لا قرض فيها، أي لا تقرض الأجساد كما هو الحال حين تغرب، وذلك لأنها ضعيفة ويمكن للأنسان النظر إليها دون أن تؤذي عينيه. في هذه الفترة لا تكون الشمس قوية لذا لا يظهر فيها الظل.

نريد أن نستفيد من الآية السابقة في تحديد بداية الغدو، لأن بدايته مرتبطة بظهور الظل على الأرض كما تؤكد على ذلك الآية التالية، يقول الله عز وجل:

**(**وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) الرعد (15)

تبين الآية أن جميع الكائنات الحية تسجد لله،طائعة أو وهي كارهة للسجود من خلال الظل، فظل الأشياء الملاحق لها أينما ذهبت هو تعبير عن ذلك السجود الدائم لله، ثم تقول الآية: (وظلالهم بالغدو والآصال) أي أن ظلال تلك الكائنات الحية والأجسام نازل على الأرض سجودًا لله في هتين الفترتين المتقابلتين.

وفي الآية برهان على مافهمناه من أن الغدو والآصال هما وقتا الظل، ومنه يمكننا أن نحدد بداية الغدو ببداية ظهور الظل على الأرض، ونهاية الآصال باختفاء ذلك الظل. وفي الواقع حين تطلع الشمس من جهة المشرق تكون ضعيفة الضياء يمكن النظر إليها بالعين كما رأينا في آية طلوع الشمس على أهل الكهف، وفي هذه الفترة لايظهر الظل على الأرض، وبعد برهة يقوى ضياء الشمس، فلا تتمكن العين من النظر إليها ويبدأ الظل في الظهور، وحين يبان الظل يمكن أن نقول أن فترة الغدو قد بدأت.

الذي أظهر الظل هو قوة ضياء الشمس، وهذه القوة هي التي عبرت عنها آية إقامة الصلاة ( بالدلوك ) يقول الله عز وجل :

**(**أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) سورة الإسراء (78)

نقف عند هذه الآية عند التعبير القرآني (دلوك الشمس)، ويمكن أن نقول أن الشمس دالكة فهو دلوكها، أي أن الشمس فاعلة فهو فعلها، أي أن الذي فعل الدلك هي الشمس، وهذا التعبير قريب من التعبير الذي لمسناه في آية طلوع الشمس على أهل الكهف التي عبرت عن تأثير ضياء الشمس بالقرض، والدلك تعبير أعم وأشمل، فالدلك كالدعك هو ضغط بحركة متواصلة، وهو تعبير دقيق عن تأثير ضياء الشمس وحرارتها حين يقوى ويظهر بسببه ظل الأجسام على الأرض.

لو تعاملنا مع الغدو والآصال على أنها فترة واحدة، وأردنا تحديد بداية هذه الفترة ونهايتها، فسنقول من خلال مافهناه من ارتباط هذه الفترة بالظل، وكذلك ما فهمنا من دلوك الشمس، سنقول أن بدايتها هي ظهور الظل ونهايتها هي اختفاءه. وبمعنى أدق نقول أن بداية الغدو تكون مع دلوك الشمس وقوتها ومع ظهور الظل، ونهاية الآصل مع ضعف الشمس وعودتها للون الأصفر الذهبي واختفاء ظل الأشياء تبعًأ لذلك الضعف.

أما النقطة الفاصلة بين الفترتين عند الظهيرة فهي الغداة، وهي النقطة التي تصل فيها الشمس إلى أعلى مستوياتها، فينقبض الظل إلى أقل درجة، وسميت بالغداة نسبة للموقع المكاني في السماء الذي غدت له الشمس وأقبلت عليه أثناء فترة الغدو.

خلاصة :

كان حديثنا عن الغدو والآصال، قلنا أن الغدو هو فترة أقبال الشمس إلى منتصف الظهيرة،والآصال هو إدبارها من منتصف الظهيرة إلى المغرب، ومن ثم حددنا بداية الفترتين بظهور الظل والنهاية عند اختفاءه، وربطنا ذلك بفهمنا بدلوك الشمس الذي قلنا أنه يعني قوة ضياء وحرارة الشمس على الأرض. أما الفاصل بين الغدو والآصال فهو نهاية الغدو والذي يسمى بالغداة.

رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء والحمد لله رب العالمين.

انتهى .