فهم القرآن أزمة تقدير لا تفكير
لم يكن مثلُ "البعوضة" مثلاً عابراً في ثنايا سورة البقرة وفي سياق الحديث عن مرضى القلوب، بل إنه مثل يؤسس لمفهوم هام في التعامل مع الكتاب على مبدأ فهم الإنسان لقدره أمام الخالق. إن قضية فهم الإنسان لقدره تأخذ أبعادها في واقع الإيمان كما يشير إلى ذلك القرآن في أكثر من موضع وبأكثر من صورة، وآية "مثل البعوضة" تبين المقام الحقيقي الذي يجب على المؤمن أن يأخذه أمام الكتاب السماوي، وترشد إلى بداية هامة لفهم الكتاب.
﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾[1]
مثل "البعوضة" في بداية سورة البقرة يقول للإنسان إن مثل قدرك أمام الله سبحانه وتعالى هو مثل البعوضة، وبهذا فإن الآية تقر حقيقة الضعف والصغر والهوان الذي يجب أن يَمثل به الإنسان أمام ربه وبالتالي أمام الكتاب، و تُنزل الراغب في الإيمان بالكتاب منزلة الخشوع ، فيسأل الكتاب باستصغار و يناقشه بخضوع، وبهذه الرؤية المليئة بالعدم و الاستصغار أمام الخالق العظيم، تتأسس علاقة المؤمن بالكتاب السماوي.
حقيقة البشر أنهم لا يتعاملون بمنطق واحد ولا برؤية واحدة، بل برؤى مختلفة ومتباينة في كثير من الأحيان، وتتشكل تلك الرؤى لدى كل جماعة وكل إنسان من خلال نظرته لنفسه وللحياة، وعلى أساس تلك الرؤى و تلك التوجهات يتخذ الإنسان المنطق الذي يلائمه، ومن ثم ينعكس ذلك المنطق منهجيةً يسير على أساسها في ميدان الحياة، ويصبح لدى كل جماعة بناءً لتلك الرؤى تبريراتها في حركتها في شتى التفاصيل. يعرض لنا القرآن الكريم وفي أكثر من سورة تلك الرؤى المختلفة في الدين، فهناك منطق الآمن من العقاب المطمئن الذي أرفع من شأن نفسه وطائفته وأضاع قدره الحقيقي أمام الله، وفي المقابل هناك منطق الضعيف الخائف الذي أدرك حجمه الحقيقي أمام خالقه. وبناءً على هذين المنطقين المختلفين تتكون منهجيتان مختلفتان، فإما أن تتكون منهجية الثبات على الموروث والتمسك بما كان عليه الآباء على أساس أن الطائفة لها حظوة وخصوصية عند الله، أو تتكون منهجية الحركة والتغيير على أساس البحث عن الحقيقة والبحث عن سبل النجاة أمام خالق يتعامل مع البشر بالقسط دون تمييز أو محاباة، وعلى أساس من النظام والقانون العادل للمحسن إن أحسن، وللمسيء إن أساء.
ما لم تلامس قلب الإنسان الحقائق الربانية عن تكوينه وقدره الحقيقي تستدير بوصلة التفكير لديه إلى الجهة والمنطق الذي تفرضه قوة أحاسيسه الداخلية عن اعتباراته لذاته وطائفته وللأشياء من حوله. وهنا منهجيتان متباينتان وإن تشابه مظهرهما، ومتباعدتان وإن تطابقت أفعالهما، فالمنهجية الأولى والتي نبعت من غياب فهم الإنسان لقدره الحقيقي أمام الخالق توظّف كل شيء من أجل الأنا بشتى صورها، أما المنهجية الثانية فإنها توظف كل شيء وحتى الأنا من أجل الخالق ومن أجل الحقيقة لا سواها. وعليه يكون الاختلاف في التعامل مع الكتاب السماوي، فهو إما أن يُوظَّف لصالح الجماعة التي أعلت نفسها وأعزت مكانتها واغترت بنفسها أمام الله، أو أن يوضع فوق الرؤوس ليعلو على كل ما هو عال من الاعتبارات الاجتماعية و الإرثية على أساس من العبودية التامة و التسليم الحقيقي لله. إما أن يؤخذ من الكتاب ما تهواه الأنفس وحسب، فيُقتطع منه كل ما يشبه أنه رفعة لمكانة الجماعة بأشباه الأدلة وبلوي أعناق الآيات لصالح الذات، وإما أن يُؤمن بالكتاب كله فتتوطن النفوس للتغيير والحركة والتبديل نحو الحق مهما كانت النتائج.
من خلال إدراكنا لأهمية موضوع قدر الإنسان هذا، يمكننا أن نفهم أصل المشكلة في فهم الكتاب السماوي في كونها في معرفة التقدير لا في قوة التفكير، فالتفكير إنما يدور في فلك المنهجية والمنطق الذي وقع فيه الإنسان واعتقده في ضميره، والعقل خادم الضمير. ولا شك في أنه لاعتبارات الجماعة لنفسها تأثير في التعامل مع الكتاب مالم تصحح المقادير، بل إن لتلك الاعتبارات بالغ الأثر على سلامة القلب وقوة إدراكه للحقائق الربانية إذ إن لها الحضور الأكبر في النفس ما لم تقارع باعتبار أكبر وهو قيمة الكتاب ومكانته، فبتلك المكانة وبذلك السمو تؤخذ حقائق الكتاب وأحكامه بصفاء دون تأثير وتشويش من تركة (الأنا) الثقيلة المتمثلة في موروث الآباء وسنة الأولين. وتتخذ هذه المشكلة عدة صور، فهي بلغة التقدير بين طرفين هما الأنا و الإله، وبلغة النصوص الدينية بين الموروث و الكتاب، وبلغة المنهجية بين التصحيح و التحجر. وبهذا التسلسل يتضح أن أصل مشكلة التحجر في الدين هو إعلاء الموروث كونه مقيداً للحركة وسالباً للحريات، وأصل مشكلة إعلاء الموروث هو سوء تقدير الإنسان لنفسه وفئته التي ينتمي إليها وظنه أنه على صواب وأنه في الفرقة الناجية فيتمسك بكل ما تحمله من خير وشر في موروثاتها. وبهذا التسلسل أيضاً يتضح أن للحركة والقدرة على التصحيح في الدين أصلاً مرجعياً وهو الكتاب الذي يحمّل الفرد مسؤوليته في القرار، ويضعه أمام خيار أنه لا نجاة للإنسان إلا بميزان الحق بتجسيد آيات الله البيانات وتفعيلها في الواقع، وأصل اتخاذ الكتاب كمرجعية في الدين يعود إلى أصل آخر وهو فهم القدر الحقيقي لله، لذا تعلو كلمته فوق كل الكلمات ويعلو اعتباره سبحانه فوق كل اعتبار.
إن سورة البقرة المباركة وفي مثلها "مثل البعوضة" تؤسس لمنهجية البحث الموضوعي من خلال وضع الإنسان في قدره الحقيقي، لأنها تقول ضمناً انظر للمسافة بينك وبين خالقك جيداً واحفظها، وقدّر الله حق قدره بتقدير آياته وإعلائها، واسلك بنفسك طريق نجاة حقيقي باتباع البيّن من آياته إن كنت تؤمن فعلاً بجنة ونار، ولا تك كالذين كفروا وقالوا "ماذا أراد الله بهذا مثلاً " ، ﴿ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ ﴾ [2].
[1] سورة البقرة آية (26)
[2] سورة البقرة آية (27)
نشر في
جهينة الإخبارية
صحيفة بث الواحة