مدونة حلمي العلق

محو الأمية

 | نحن والقرآن

مقدمة

عندما يستعرض القرآن الكريم النعم التي يمنّ بها علينا، فإنه يستحثنا لأن نتفكر ونتوجه إليه لأن التوجه إليه هو تمام ذلك التفكر والتدبر في الآيات الكونية والآيات القرآنية، لقد أنعم الله علينا بنعمة السمع والأبصار والأفئدة لعلنا نشكره ولعلنا نتفكر فيقودنا التفكر إليه سبحانه وتعالى، من النعم التي منّ الله بها علينا هو أن علّمنا الكتابة والقراءة، هذه نعمة فأين شكرها؟ وأين يستحثنا القرآن في صرفها؟ إنه يستحثنا لأن نستثمر هذه الملكة وهذه النعمة في قراءة هذا القرآن الكريم؟

محو الأمية

عَلمنا من كتاب الله العزيز أن هناك أمية تعد هي الأخطر من نوعها وهي أمية الكتاب، وهي أن يكون المؤمن الذي أنزل الله على أمته كتاباً أمي في كتابه السماوي، لا يعلم أحكامه ولا شرائعه ولا عقائده. ونعلم أن بقاء الأمية هي نذير خطر على أي أمة، فإذا كانت الأمم اليوم تحارب الأمية وتتفاخر بالقضاء عليها، فإنه من الواجب علينا أن نضع محو أمية الكتاب في أعلى أهدافنا ومن أوجب واجباتنا. الأمم تمحو الأمية من خلال القضاء على أمية القراءة والكتابة وهذه هي أدنى مستوياتها، ولكن بالقضاء على هذا المستوى من الأمية، لا تنتهي المشكلة، لأن الإنسان حينها يكون قادر على القضاء على الجهل ولكن بشرط الاطلاع والقراءة.

أحد أهم معايير تقدم الأمم هو عدد الكتب التي يقرأها الفرد في العام والواحد، ولو افترضنا أن مجتمع ما تمكن من محو أمية القراءة في جميع أفراده ولكن جميع هؤلاء الأفراد لا يقرأون ولا يطّلعون على مايجري حولهم سيظل أفراد المجتمع في حالة من الأمية، لأن حقيقة الأمية هي أن يكون الفرد جاهلاً في مجال ما، ولا يمتلك القدرة على التعامل في ذلك المجال، ولذلك نرى أن للأمية أنواع: فمنها الأمية الحضارية، الأمية البيئية، أمية الحاسب الآلي الأمية الصحية، وغيرها، كل تلك المسميات أطلقت حسب ما يحتاجه هذا الإنسان حتى يكون فاعلاً منتجاً في مجتمعه، وبالمثل بالنسبة للقرآن الكريم فعدم الاطلاع عليه وعدم فهم مواضيعه يعد أمية في الكتاب، وكما أن تلك الأنواع من الأميات تهدد المجتمع بالتخلف، كذلك فإن هذه الأمية تهدد المجتمع بالانحدار عقائدياً وفكرياً وفي شتى المجالات، وإذا كانت خسارة تلك الأميّات في الدنيا، فإن خسارة أمية الكتاب أفظع لأنها قد تكون في الدنيا والآخرة أعاذنا الله وإياكم من تلك الخسارة.

القراءة ومحو الأمية

يقول الله سبحانه وتعالى

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۝ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ۝ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ۝ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۝ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ۝ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ۝ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ۝ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ۝ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ۝ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾ العلق (1) - (12)

نعلم أن هذه الآيات المباركة توجه الخطاب إلى نبي الرحمة محمد (ص)، ولكن هل هذا أمر مختص بالرسول أم أنه أمر متعد، أي يتعدى شخص الرسول ولا يقتصر عليه؟ ألا يعد هذا الأمر لكل من آمن بهذه الرسالة؟ ويصل إلى كل من آمن بهذا الكتاب، إنه يخاطب كل إنسان في كل زمان ويقول له (اقرأ)، تعال لنفهم هذه الآيات من خلال فهمنا لأمية الكتاب.

انظر كيف يوجهنا الله سبحانه وتعالى إلى نعمة القراءة والكتابة التي منّ الله بها علينا، انظر إلى قوله تعالى (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) لقد علمك الله بلطفه بهذه الأداة البسيطة علمك ما لم تكن تعلم، والآن بعد أن تعلمت وعلمِت القراءة، فهذا لا يكفي، يجب أن تمحو أميّتك في الكتاب، كما أن للسمع والبصر شكر، كذلك لملكة القراءة شكر، فوظفها في قراءة أهم كتاب وأقدس كلمات، لتحمو الأمية.

ثم انظر كيف يوجهك لتقييم الآخر من خلال وعي ومعرفة ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ۝ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ۝ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ﴾ الآية تعطي معيارًا في تقييم الآخر الذي يأمر في الدين وينهى، عليك أن تنظر وتتأمل في قوله : هل هو على هدى أم لا، فإذا كان الهدى بين يديك فبه يمكنك أن تميّز بين الحق والباطل بين من يأمر به وبين من يبعدك عنه وينهاك عنه.

القرآن والصلاة

ثم تأمل كيف بدأت الآيات بالحديث عن قراءة القرآن، ولكنها أكملت الحديث بالصلاة، في ربط لطيف ، لإنه من قرأ كلمات القرآن فقد صلى إلى الله سبحانه وتعالى، وبهذه القراءة تكتمل الصلة بين العبد وربه، فلا تستمع لمن يريد أن يقطع هذه الصلة، لا تطع من يريد أن يُبعدك عن هذه العلاقة القوية الهامة التي هي سبيل الرشاد.

محو الأمية

دعانا الله سبحانه وتعالى وفي أوائل القرآن الكريم أن نكون قراء للقرآن، وهو ما يجب أن يكون عليه حال القرآن بيننا وهو أن نقرأه بكثرة، هذا الأمر الذي خاطب الرسول أولاً هو يتعداه لكل مؤمن آمن بهذا الكتاب، فهذا الأمر ممتد لكل من يؤمن بهذه الكلمات، "أقرأ باسم ربك الذي خلق" : يا من تؤمن بهذا الخالق يامن تؤمن بأن هذه الكائنات هي لخالق واحد ، يامن تؤمن أن جسدك هذا بكل مافيه من آيات هو عطاء منه وليس ببدعة منك أو من أي أحد آخر، اقرأ ما يريده خالقك ومالكك أن تقرأه، اقرأ كي تتعلم ما يريده خالقك أن تتعلمه.

"اقرأ وربك الأكرم" الذي أكرمك ولم يكرمك أحد غيره، أكرمك في خلقك، في تسويتك، وها هو يكرمك بتعليمك وإرشادك وهدايتك، إذا كنت تعتقد أن ذلك الجنين المعلق في رحم أمه هو بإمر الله تعلق وبرعايته ورحمته الذي شمتله فكبر حتى خرج من بطن أمه وأصبح طفلاً ثم رجلاً، فهاهو اليوم يخاطبك ويقول لك اقرأ باسمه، اقرأ بإذنه هذه الكلمات لا غيرها، وبإذنه تقرب إليه فقد أذن لك أن تتقرب إليه بهذه الكلمات التي أنزلها لك.

هذه القراءة هي أساس الصلة بين العبد وبين ربه، والصلة هي أساس الصلاة هي الربطة والرابطة لذلك تتمة الآية تتحدث كما نرى عن الصلاة، " أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى" وكان من المناسب أن تتحدث الآية عن منع قراءة القرآن، ولكنها أكملت على أساس أن قراءتك للقرآن هي صلة، والصلاة هي أعلى مراتب تلك الصلة وأعلى تجلياتها، فقد تقرأ القرآن وأنت جالس، وقد تختار أن تقرأ القرآن وأنت تصلي، و الصلاة أفضل أوضاع قراءة القرآن، لذا فالآية تكمل وتقول "أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى" ؟ وهذا ما يوضح ويؤكد لنا أنه لا انفكاك بين قراءة القرآن وبين الصلاة، كما بيّنت ذلك آيات أخرى، ولوجود هذا الارتباط يمكننا أن نفهم أنه لا انفكاك أيضاً بين الهدى الذي يمكن أن يدخل إلى قلوبنا من هذه الكلمات النورانية وبين إقامة الصلاة بحق إقامتها، وأن الصلاة هي أحد مواطن نزول هدى الكتاب على الإنسان "اهدنا الصراط المستقيم".

خاتمة

في السورة تكامل بين الموجد وهو الله وسبب الوجود وهي حقائق الكتاب، أوجدك خالق، وفي هذا الكتاب هو سر وجودك وسببه، خالقك أكرمك في خلقتك وهو يكرمك اليوم في إرساله هذا الكتاب، وسيكرمك بالهدى بواسطة هذه الكلمات، هو اللطيف الذي يعلم الإنسان بخفاء ويرعاه بلطف، وهنا يضمن له التعليم بالقلم، فامسك القلم وتعلم كتاب الله.

إذاً منذ البدايات وهذا القرآن يأمر المؤمن أن يكون قارئاً متعلماً مطلعاً متعرفاً على حقائق الكتاب، وأن يعلق قلبه بكلماته ولا ينساها حتى لا يخر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق. وما نتيجة عدم القراءة ؟ هو الأمية والسفه والتي تقود الإنسان إلى الهلكة، وإذا كانت أمية المجتمع في القراءة والكتابة وعدم الاطلاع تقوده إلى التراجع والتدني بين الأمم فمن المحتم أن أمية الكتاب تقود إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير لأن خسارة الآخرة لا تقارن بخسارة الدنيا.

المجتمع الرشيد الذي يسعى القرآن الكريم لتنشئته هو مجتمع قارئ مطلع لا ينعق وراء كل ناعق ولا يسير خلف كل راية بل إنه يسير على بينة من ربه من خلال اقترابه من كتاب الله ومن خلال كثرة القراءة لهذا الكتاب المجيد .