مدونة حلمي العلق

العشاء القرآني

 | نحن والقرآن

مقدمة

يأمرنا الله عز وجل أن نبني علاقة مميزة خاصة دائمة مستمرة لا تهاون فيها ولا تغافل مع هذا الكتاب، أن نجعله درعاً حصيناً ضد هجمات الشيطان ومكائده، ولن ينجو ذكي أو فطن من تلك المكائد مالم يجعل من هذا القرآن حصنه الحصين ودرعه المنيع، والشياطين ينتظرون اللحظة التي يتغافل فيها المؤمن عن هذا الكتاب وليس فقط يعرض عنه، وينتظرون اللحظة التي يسعى المؤمن بهذا الكتاب أن يتعامل معه بسطحية أو بهوى أو مرض قلب حتى يكونوا حاضرين ليأخذوه إلى واد آخر وإلى دين آخر غير الذي أنزله الله. تحدثنا في الحلقة السابقة عن أحد أهم مسميات القرآن الكريم وهو "الذكر" وقلنا أن متلازمة ذلك الذكر هو كثرة القراءة، والله سبحانه وتعالى لا يريد منا قراءة سطحية، وإنما قراءة واعية تحصّن الإنسان من الهجمات الفكرية التي يصطنعها الشيطان الرجيم لهذا الدين، وقد مررنا على آية هامة جداً وهي آية "لم حشرتني أعمى" ؟

العمى القرآني

﴿ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾ طه (125)-(126)

العمى يوم القيامة هو عاقبة الإعراض والعمى عن آيات الله في الدنيا، العمى عن الكتاب هو عمىً اختياري فالأنسان يختاره بنفسه بالإعراض عن آيات الله، ولكنه يحشر يوم القيامة مكرهاً على العمى كنتيجة لعمله. ولكن أين تكون البداية لهذا العمى؟ بداية هذا العمى هو العشاء القرآني وهو أن يختار الإنسان أن يعشو عن القرآن، أن يتغافل عنه باختياره أيضاً، فما هو العشاء القرآني؟ سورة الزخرف في آية (36) تتحدث عن ذلك العشاء.

العشاء القرآني

﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ۝ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ الزخرف (36)-(37)

العشاء في الوقت هو بعد مغيب الشمس وقبل العتمة، في الوقت الذي تتضاءل فيه رؤية الأشياء، فلو أضاع أحدنا غرضاً أو شيئاً في الفضاء الخارجي، ثم جاء هذا الوقت ستتضاءل فيه رؤية الأشياء عن حقيقتها وسيصعب تمييز ذلك الشيء الضائع حيث تتحول فيه الأجسام إلى خيالات يصعب على العين تمييزها.

1- ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ ﴾

هو يختار أن يغيب عن الرؤية، هو يختار أن لا يرى الأشياء على حقيقتها، يعشُ عن ماذا؟ عن ذكر الرحمن عن ما أنزل الله من الآيات البينات، لم يعمَ بعد، ولم يُعرض بعد، لكنه اختار أن تكون علاقته مع الكتاب علاقة سطحية بحيث لا يرى الأشياء كما هي، لقد غابت بهذه العلاقة السطحية صورة الأشياء فلم تبدُ على حقيقتها، وبدأت الحقائق تتحول إلى خيالات لا يجزم بوجودها، ومن الذي اختار هذه الحالة؟ هو هذا المؤمن المؤمن بالكتاب. فما نتيجة هذا الفعل؟

2- ﴿ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾

من الذي سيُقيَض له شيطاناً ؟ هو الله سبحانه وتعالى، وهذا التقييض عقاب له على هذا التغافل والتعامي عن حقائق الكتاب، وسيكون الشيطان له قرين، ملازم له ؟ لماذا؟ لربما أضاءت له آية من آيات الكتاب نوراً ولعلها تهديه وتعيده إلى الحقيقة في لحظة من اللحظات، فيأتي هذا الشيطان ليطفئ نور هذه الآية ويصرفه عن حقيتها. وما هو دور هذا الشيطان وأقرانه من الشياطين؟

3- ﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ ﴾

يصدون عن السبيل الذي يريده الله سبحانه وتعالى، والذي أوضحه في كتابه، والذي اختار هذا المؤمن أن يَعش عنه حتى لا يراه ولا يشاهد حقائقه بعد اليوم.

4- ﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

من الذين يحسبون أنهم مهتدون؟ أولئك الذين تعاملوا بسطيحة وتغافل عن حقائق الكتاب! هذه هي مصيبة هذه العقوبة، أن الشيطان لديه القدرة بأن يوحي للمبتعدين عن القرآن أنهم مهتدون، وهذا يدل على أن الشيطان يصنع لهذا المؤمن دين آخر غير الدين الذي أنزله الله ويطمئن هذا المتبع بأن هذا ما يريده الله، وأن هذه هي الهداية.

إذاً بمجرد أن يتعامل هذا المؤمن مع هذا الكتاب "بعَشاوة" يجعل الله على قلبه "غِشاوة"، وبمجرد أن ينشغل إلى غيره ويقلل من أهمية هذا الكتاب تسقط حصانته، ويسقط حصنه المنيع الذي كان مصنوعاً من ذكر الله، هذا الحصن هو حصن عقائدي فكري يحصن المؤمن من مكائد إبليس الرجيم الذي يعمل على إبعاد الناس عن حقيقة الكتاب، ولأن القراءة الواعية هي المطلب، أسمى الفعل الذي يقود المؤمن لهذه العقوبة العشيان والذي يقع في بصر الإنسان.

الشيطان يتحايل على المؤمن داخل الدين وليس خارجه، وهذه عقوبة ربانية شديدة تدفع بالإنسان للحذر من التعامل مع هذا الكتاب بإعراض أو حتى بتغافل عن حقيقة من حقائقه وتحمل المؤمن مسؤولية التعاطي الإيجابي مع القرآن الكريم، وأن يفتح المؤمن قلبه وبصره وبصيرته لهذا القرآن، وأن يعميها عن التيارات والأحزاب التي تجرف الإنسان وتبعده عما يريد الله سبحانه وتعالى.

﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۝ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ الزخرف (43)-(44)

الله يأمر نبيه محمد (ص) أن يستمسك بهذا الكتاب لأنه الصراط المستقيم الذي يريد الشيطان أن يقعد ليحرف الناس عنه إلى غيره، والله سبحانه وتعالى يقول للنبي محمد أن هذا القرآن هو ذكره وذكر قومه وذكر من آمن بهذه الرسالة " وسوف تسألون " عن ماذا ؟ عن كيف تعاملتم مع هذا الكتاب؟ كيف تعاطيتم معه، هل أبصرتموه أم تعاميتم عنه، هل بحثتم عن مساوئكم لإصلاحها، أم أن أبصاركم تغشوها الأوهام.