الأمية
| نحن والقرآن# مقدمة
الأمية هي عدم توافر الحد الأدنى من المعرفة والثقافة التي تمكن الفرد من التعامل بشكل فاعل والارتقاء بنفسه وبالجماعة التي ينتمي إليها، كل مجتمع له حد أدنى من المعرفة بحيث يكون النزول عنها هو بمثابة دخول لعالم الأمية، مفهوم الأمية متحول وقابل لأن يأخذ أكثر من اتجاه، فالأمية بهذا التعريف هي أنواع ومستويات، وتعد أمية القراءة والكتابة هي أولى مستويات الأمية بشتى أشكالها وأنواعها، ومع التقدم التكنولوجي تتخذ الأمية أشكالاً مختلفة أخرى كالأمية الإلكترونية مثلاً، فمع تطور العالم أصبحت الأمية ليست أمية القراءة والكتابة وحسب، فمن الممكن أن تضاف أمية التعامل مع الأجهزة الذكية والإلكترونية إلى تلك الأمية بحكم أنها أصبحت مستلزم في شتى صنوف الحياة، إذاً كلمة الأمية هي كلمة نسبية تأخذ معناها من خلال المستوى والموضوع الذي نتحدث فيه، ويحدد المستوى المعرفي على أساس الزمان والظروف والإمكانات بحيث تصنع تلك المعرفة حصانة لذلك المجتمع ضد هجمات الجهل التي تودي به إلى الخسران.
والأمية كمقياس لا تستهدف طبقة محددة دون أخرى في المجتمع وإنما تقيس عموم الناس، فمتى ما انحدر المجتمع عن الحد الأدنى من المعرفة في مجال محدد فقد دخل في الأمية في ذلك المجال، لذا فإن محو الأمية يستهدف الطبقات غير المطلعة وغير المتعلمة بالدرجة الأولى حتى يتم تأهيلها لتواكب بقية المجتمع للمستوى الذي يجب أن لا يقل فيه أحد عنه، وإن قل فقد وقع في عالم الجهل وكان عرضة للاستغلال والتخبط، وبهذا تتفاخر الأمم اليوم بمحوها للأمية ونشرها للوعي في جميع البلدان لأن في ذلك مؤشر على تقدم المجتمع وتحضره.
# أمية الكتاب
وردت كلمة الأمية في القرآن، فما الذي يقصده القرآن الكريم بالأمية؟ ما هو الموضوع الذي تتناول فيه الآيات هذه الكلمة؟ وما هي حدود تلك الأمية؟ بالرجوع للموضوع الذي تتحدث فيه الآيات عن الأمية نفهم أن المقصود هو أمية الكتاب، وهو عدم توافر الحد الأدنى المعرفي من عقائد وأحكام وشرائع الكتاب السماوي، ولأن الكلمة مرتبطة بعموم الناس وبتوافر الحد الأدنى من المعرفة للكتاب، فإنها تشير ضمناً إلى وجوب وجود مستوى معرفي يزيد ولا يقل في مواضيع وعقائد الكتب السماوية، يجب أن تتوافر تلك المعرفة لدى أدنى طبقة في المجتمع المؤمن، وأقل من ذلك المستوى يعد جهلاً بمعارف الكتب السماوية ومواضيعها الأساسية، بحيث أن عدم توافر الحد الأدنى في المعرفة في ذلك المجتمع يجعله متخبطاً ويسير في غير هدىً في شأنه الديني وفي علاقته مع الله. وإذا كانت الأمية أمر معيب بالنسبة لمن يؤمن بالكتب السماوية، فإن العيب مضاعف بالنسبة للأمة التي نزل الكتاب في كنفها وتحدث بلغتها.
إن الأمة التي نزل القرآن الكريم في أحضانها تحمل مسؤولية تعلمه والعمل به وتبليغه لبقية شعوب الأرض الذين لا يعلمون لغته، ومحو الأمية عنهم في مفاهيمه وعقائده، هذا فضلاً عن محوها فيمن نزل فيهم ويتحدثون بلغته. من هنا فإن مسؤولية من يتحدث العربية كلغة أم تتضاعف تجاه القرآن العربي المبين في تعلم هذا الكتاب وتعليمه ونشر مفاهيمه الخالصة، لأن ذلك هو الإصلاح الذي ينشده القرآن من حامليه، وتلك هي المسؤولية الملقاة على عواتقهم والتي إن هم تخلوا عنها كانوا كمن حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها.
والآن أصبح لزاماً أن نتعرف على أمية الكتاب وأثرها على المجتمع وكيف تناولت الآيات هذه المشكلة، يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ البقرة (78)
الآية تتحدث عن أهل الكتاب، وتبين وجود طبقة في المجتمع الكتابي، هذه الطبقة تعيش الأمية في الكتاب فلا تعلم منه شيئاً، لا تعلم مفاهيمه ولا عقائده، الآية الشريفة تنتقد هذه الطبقة، وتنتقد وجود هذه الأمية التي وقع فيها أهل الكتاب من أتباع اليهودية، وهذه فئة من المجتمع لا تعلم من الكتاب شيئاً، على الرغم من أن الكتاب بين أيديهم وبلغتهم إلا أنهم وقعوا في تلك الأمية نتيجة لهجرانهم لكتاب الله وابتعادهم عنه، هذا الهجران أنتج جهلاً كبيراً بأساسيات الكتاب ومبادئ الدين وعقائده الصحيحة، فهؤلاء لا يعلمون من دينهم إلا أمنيات الدخول إلى الجنة، فهم يعتقدون أنهم سيدخلون الجنة لأنهم أبناء الله وأحباءه، وقد ساروا بهذه الكذبة التي كذبوا بها على أنفسهم قرون طويلة، دون أن يعرضوا أمنياتهم تلك على كتاب الله الذي هو بين ظهرانيهم، وقد اكتفوا بالظنون على الرغم من وجود اليقين بين أيديهم.
# كتابات أخرى
﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ البقرة (79)
ما علاقة الأمية في الكتاب بمن يكتبون الكتاب بأيديهم؟ هذه كتابات مخالفة لعقائد الكتاب لكنها تجد رواجاً بين أوساط الأميين، إذ ليس بالضرورة أن تكون أمية هؤلاء في القراءة والكتابة، ولكن أميتهم نتجت عن جهلهم بكتابهم المنزل وابتعادهم عنه، هذا الابتعاد رفع عنهم حصانة المعرفة الربانية فأصبحوا عرضة لأغراض الشيطان، ومرتعاً خصباً لمن يريد أن يتلاعب بالدين وأن يحرفه عن أصوله التي أنزله الله عليها، فهاهنا كتابات أخرى غير كتاب الله تحوي عقائد ما أنزل الله بها من سلطان تجد لها مكاناً في صدورهم لأنها تتساير وتتناغم مع الأهواء. وبهذا تتضح العلاقة بين الآيتين، فالأمية تعني سقوط الحصانة الربانية والعيش في ظلام بسبب اختفاء نور العلم، وسقوط هذا الحصن المنيع جعلهم هدفاً للعقائد الباطلة التي تخطها أيدي المجرمين.
في مجتمعهم من يكتب ويكذب ويروّج لذلك الكذب باسم الله، وهناك من لا يعارض ولا ينكر ذلك المنكر بل يستقبله ويسير على أساسه. ومن المؤكد أن تلك الكتابات تعزز ما يخالف العدالة الربانية لصالح الطائفة التي ينتمون إليها، وتروج لما يخدر الأنفس عن التعقل والرشد، وتبث عقائد الخصوصية الكاذبة في تعامل الله مع الطائفة، في أن الله خصص لهم من بين بقية البشر طريقة خاصة في المحاسبة يوم القيامة! لماذا؟ لأنهم أبناء الله وأحباؤه كما يدعون، تلك الادعاءات هي مخدرات العقول، وهي حجاب منيع من الاقتراب إلى حقائق الكتاب السماوي، فمن أوصلته كتابات الأكاذيب إلى الجنة بسهولة لا يحتاج إلى مجاهدة النفس التي تفرضها عدالة الكتاب السماوي، فلا هو غريق حتى يتمسك بعروة وثقى، ولا هو ضال فيحتاج إلى هداية أو رشد، لأنه وصل إلى ضمان الآخرة وهو في الدنيا.
﴿وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ البقرة (111)
﴿ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ البقرة (80)
هكذا يتحدث الأميون في الكتاب، وهذا القول لا يجدونه عند الله ولكنهم يجدونه عند الذين يكذبون على الله، يأخذونه بجهل في كتابهم، نسوا ماذكّروا به من حقائق في الكتاب، نسوا عدل الله، وأن الحساب بالعمل لا بالانتماء، فكانوا قوماً بورا. وهذه واحدة من أسوأ نتائج الأمية في الكتاب التي تجعل المجتمع عرضة لتقبل ما يفرضه تيار الانتماء حتى وإن كان لا يطابق مواصفات الكتاب العزيز.
وهنا تبرز أهمية محو الأمية في الكتاب لأن سقوط حصن المعرفة يجعل المجتمع عرضة للأمراض القاتلة في عقيدته وعلاقته الحقيقية مع الله سبحانه وتعالى، أساس المعرفة هو القراءة، تلك القراءة التي كانت ركيزة أساسية في التعامل مع القرآن الكريم الذي اشتق اسمه من كثرة القراءة.