مدونة حلمي العلق

القرآن والصلاة

 | نحن والقرآن

مقدمة

لابد وقبل أن نتعامل مع القرآن الكريم أن نعيَ الدرجة التي يجب أن نضعه فيها حسب ما يريد الله، والمتتبع بإمعان للآيات يرى وجوب تعظيم هذا الكتاب، وأن إنزاله منزلة أقل من قدره الذي أنزله الله فيه تكون سبباً في حجب نوره ورفع هداه، فإذا كان هدفنا كمتدبرين أن نتخذ من القرآن سبيلاً ومنهاجا علينا أن نأخذه من حيث يطلب هو لا من حيث نطلب نحن ولا من حيث نتصور نحن، ولا من حيث ما توراثناه من طريقة في التعامل مع هذا الكتاب العظيم، ولكن من حيث ما تنص آياته وما تتحدث به بيّناته عن درجته ومكانته. وقبل أن نأخذه كنص يحتاج إلى تفكيك وتحليل في مختبرات اللغة، علينا أن نعي أنه نص يتعبد به إلى الله، هو ذكر المؤمن ومعراجه للتقرب لله.

تعاملنا مع القرآن يجب أن يكون مختلفًا عن تعاملنا مع أي كتاب آخر، لأننا لا نتعامل مع نص عادي، هذا الحديث هو حديث الله وتعاملنا مع هذا النص لا ينفك عن تعاملنا مع صاحب النص، فماهي الدرجة المطلوبة في تعظيم هذه الآيات ؟

القرآن هو قول الحق سبحانه وتعالى، والآيات تفرض أن تكون علاقتنا معه علاقة تعظيم وخشوع متناهي لكل آياته، وعندما نجد آية تستنكر على الكفار عدم السجود عند سماع آية، فإنها لا تستنكر عدم السجود عند تلاوة آية محددة بل تستنكر لعدم السجود عند سماع أي آية من آيات القرآن، فالعظمة للقرآن كاملاً وليس لآية دون أخرى، ولا يفسّر هذا المطلب إلا الارتباط الوثيق بين القول والقائل، فالسجود يكون لله سبحانه وتعالى، وهذه الآيات تُنسب له وحده، ومن خلال هذا الشعور كان لزاماً السجود للقائل، فأولئك الذين سجدوا حين سَمعوا القرآن أول مرة وآمنوا به مباشرة وفي نفس اللحظة التي سمعوه فيها إنما انتابهم ذلك الشعور لأنهم شعروا بأن المتحدث هو الله، وهذا يعني أن الآيات اخترقت كل الحجب ووصلت إلى القلب كآية تدل على الخالق عز وجل.

القرآن والصلاة

يقول الله عز وجل

﴿ بسم الله الرحمن الرحيم

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۝ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ۝ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ۝ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ۝ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ۝ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ۝ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ۝ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْداً إِذَا صَلَّى ۝ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ۝ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ۝ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ۝ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ۝ كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَ بِالنَّاصِيَةِ ۝ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ۝ فَلْيَدْعُ نَادِيَه ۝ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ۝ كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ العلق

القرآن والسجود

وجدنا في آيتين في سورتين مختلفتين وجوب السجود للقرآن عند سماعه، وقد نجد ذلك منسجماً مع سورة العلق والتي فهمنا منها وجوب قراءة القرآن لمحاربة الأمية في الكتاب، وقد بدأت الآية بأمر قراءة القرآن، وانتهت بأمر السجود، وتوسط السورة الامتناع عن الاستجابة لمن ينهى عن الصلاة.

فهمنا من هذه السورة سابقًا وجوب قراءة القرآن ووجوب محو أمية الكتاب، واليوم نتناول ذات السورة ولكن من زاوية أخرى وهي علاقة الصلاة بالقرآن. وقد بدأت السورة بأمر وانتهت بأمر آخر، بدأت بأمر القراءة وتعني بها قراءة القرآن الكريم ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ وانتهت بأمر السجود لله اقتراباً منه سبحانه وتعالى.

سنتناول السورة كوحدة واحدة لأنها تتحدث في سياق واحد، السورة تأمر في بدايتها بأمر القراءة ﴿اقْرَأْ ﴾ ، وتنتهي بأمر السجود، وتوسطها نهي عن الاستجابة لمن ينهى عن الصلاة، الأمر بالسجود لوجود الصلاة، لأن الآية تقول ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ﴾ ثم تقول ﴿ كَلاَّ لا تُطِعْهُ ﴾ لا تطع هذا الذي ينهى، وعندما قالت ﴿ كَلاَّ ﴾ لم تقل كلا لا تطعه وأقم الصلاة، بل أمرت بالسجود. وبالمثل السورة أمرت بقراءة القرآن في بداية السورة ثم عطفت ذلك بالقول ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾ وكان بالإمكان أن نقرأ هذه العبارة "أرأيت الذي ينهى عبدًا عن قراءة القرآن" ، ومن هنا يمكننا أن نلخص السورة في عبارة واحدة : قراءة فصلاة فسجود، وندرك أنه لا صلاة بلا سجود، ولا صلاة بلا قراءة قرآن، قراءة القرآن هي أساس الصلاة ولبها.

السجود هو نافذة القرب من الله، ومدخل ذلك الاقتراب هو القراءة الواعية التي تهيئ الإنسان لصلاة سليمة مع الله. والآن نجد أن تلك السورة اختزلت كلاً من قراءة القرآن والصلاة في آن واحد، ومزجت بينهما وانتهت بأمر بالسجود، والسجود كما أنه ركن من أركان الصلاة، نفهم أن له علاقة بقراءة القرآن أيضاً، فيمكننا أن نقول أن السورة أمرت بالسجود حين تحدثت عن الصلاة، ويمكننا أن نقول أن السورة أمرت بالسجود لأنها أمرت بقراءة القرآن، وهنا يتماهي الاثنان في منحىً واحد وفي مسار واحد تتجلى فيه علاقة المؤمن بربه بصورة مباشرة .

القرآن والصلاة

ومرة أخرى نجد رابطاً بين قراءة القرآن والصلاة، فالصلاة الحقيقية هي التي تجسد الوقوف أمام الله، ولهذه الوقفة خشوعها، وهنا يَفرض القرآن الكريم أن نقرأه بذات الحالة، ومن هذا التناظر بين الصلاة والقرآن يمكننا أن نؤسس لعلاقة حقيقية مع القرآن الكريم ولفهم متكامل. ففي الصلاة نتوجه لله باتجاه القبلة ولا تقبل للمصلي صلاة يتوجه بها لاتجاه آخر، ولهذا المفهوم انعكاس أيضًا في التعامل مع القرآن الكريم، فحين يتوجه المؤمن للقرآن الكريم معتمداً على أن القرآن كتابه المنزل من عند الله فهو يُسلم وجهه لله بهذا الكتاب في تعبده، و يَعزل نفسه عن أي مصدر آخر ولا يتوجه لغيره، ولا يمكن لعباداته ومعتقداته أن تُقبل ما لم يكن القرآن مصدرها الأساس لأن التعامل مع الكتاب يُمثّل التوحيد الحقيقي مع الله سبحانه وتعالى. ولقد رأينا في آية (92) من سورة الأنعام أن المحافظ على الصلاة هو في حقيقته المحافظ على الكتاب، والملتزم بمفاهيمه والمؤتمر بأمره لا بسواه.

الوعي

هدف السورة هو إيقاظ الوعي بالقراءة، ونريد أن نصل إلى مرحلة من التكامل في هذه السورة، فالقراءة هي مصدر الوعي، ولكن ما يجب أن نعلمه أن القرآن والوعي القرآني ليس منفكاً عن الصلاة، فلابد من علاقة صحيحة مع الله، وبداية تلك العلاقة هو الاقتراب له عز وجل، ولذا كان السجود الذي يكون فيه المؤمن أقرب ما يمكن لربه.

أصل إقامة الصلاة

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ﴾ طه (14)

الآية تجعل من الذكر أساس في إقامة الصلاة، ونعلم أن القرآن الكريم هو أصدق مصاديق هذا الذكر لقوله تعالى : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ الحجر (9)، على أنّ الذِكر هو ما أنزله الله سبحانه وتعالى من آيات بيّنات في كتبه السماوية. وهنا نفهم أن الصلاة هي موقع من مواقع المحافظة على الذكر، المحافظة على القرآن الكريم، وحتى لا نضيع الصلاة علينا أن لا نضيع هذا الكتاب ولا نغفل عنه ولا نتناساه أو ننساه فقيمة الذكر عالية كما تبين هذه الآية الشريفة.