تقدير الكتاب
| نحن والقرآن# مقدمة
س: ما قدر هذا الكتاب؟ وما قدر آياته؟ وما هي المسافة التي يمكن أن نضعها للمقارنة بين هذا الكتاب وأي كتاب آخر؟
وصف الله سبحانه وتعالى كتابه العزيز بأنه صحف مكرمة مرفوعة مطهرة ﴿ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ ذَكَرَه فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ عبس (11)-(16) ، أنزل الله سبحانه وتعالى هذه الصحف في ليلة مباركة هي خير من ألف شهر، وحين أنزله أنزله مكرماً محفوفاً بالسفراء الكرام البررة من الملائكة، لأنهم يحملون كلام الخالق للمخلوق، كلام الله المتعالي عن خلقه إلى هذا المخلوق على هذه الأرض. وقد فرض الله سبحانه وتعالى على المسلم المؤمن صيام شهر رمضان في كل عام طيلة حياته شكراً لنعمة إنزال هذا الكتاب، وفي نهاية صيام شهر رمضان نكبّر الله على نعمة الهدى والفرقان الذي أنزله الله سبحانه وتعالى لهذه البشرية بصورة عامة وللناطقين باللغة العربية بصورة خاصة، وأوصى الذين أنزل عليهم أن يكونوا هم واسطةً للناس لنقل هذا الهدى وهذا النور لبقية شعوب العالم.
عندما نبحث عن إجابة عن سؤال المسافة بين هذا الكتاب وبين أي كتاب آخر فهي المسافة اللامتناهية ما بين السماء والأرض والتي تنفي أن يكون هناك أي وجه مقارنة، فأي كتاب حظي بهذا التقدير وهذا التكريم من قبل الله سبحانه وتعالى؟ بل إن السؤال نفسه يظلم القرآن إذ لا يمكن أن نضعه في صياغة مقارنة بينه وبين أي كلام آخر وأي عبارة أخرى، فكل جملة من جمله يسميها الله عز وجل "آية" ، والآية هي أبلغ من البرهان على دلالتها وقوة إشارتها على كونها لا تصدر إلا منه سبحانه وتعالى. إذا لا يقارن هذا الكتاب بأي كتاب آخر، لأن قدر آياته عظيم جداً، وعالٍ جداً يعلو عن أي كلام وعباراته عن أي عبارات، وأي تقليل من قدر هذه الكلمات هو ملازم للتقليل من قدره سبحانه وتعالى.
س: ماهو الاعتبار الحقيقي إلى هذه الكلمات، وكيف يأمر المؤمنين أن يتعاملوا معها؟
إن مشكلة الأمم السابقة ليس في عدم معرفة الله، ولكنها في عدم تقدير الله سبحانه وتعالى، وتقدير كلمات الله هو أبرز ملامح التقدير الحقيقي لله.
# تقدير القرآن
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام آية (91)
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ الأنعام (91)
# 1- تجعلونه قراطيس
للآية المباركة أبعاد كثيرة، لكننا هنا في صدد تناول وصف القرآن للكتب السماوية وكيف يجب أن نتعامل معها؟ الآية تخاطب أهل الكتاب الذين ابتعدوا عن كتبهم السماوية، ويقول لهم في تعاملهم السطحي مع الكتاب : ﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ ﴾ وهذا تعبير يكشف طريقة تعاملهم مع هذا الكتاب المقدس، الآية تخاطب أهل الكتاب وتقول أنكم تتعاملون معه كما تتعاملون مع أي كتاب آخر، وتعتبرونه مجرد كتاب، والآية توبخ المتعامل مع الكتاب على أنه قراطيس؟ لكن الكتاب السماوي موثق في قراطيس، هذا الذي تراه العين وهذا هو واقع البصر، لكن الله عز وجل يريدنا أن نعي أن هذا الكتاب أكبر من كونه قرطاس يضم في جوانبه كلمات، لأن هذه الكلمات تابعة له سبحانه وتعالى.
# 2- وما قدروا الله
الآية توبخهم على تعاملهم السطحي مع الكتاب، وتتهمهم بعدم تقدير الله، لأن هذا الكتاب الذي بين أيديهم هو مصدر نور وهدى وهم يحملون مسؤولية تبليغه للناس، ولكنهم حجبوا بعض من هداه ونوره عن الناس تمشياً مع مصالحهم، لماذا؟ لأنهم بدّلوا ما أنزل الله، بدلوه في الأحكام وفي العقائد، وما عادوا يتطابقون معه، فلا يريدون من الكتاب أن يكشفهم، لا يريدون من الكتاب أن يفضحهم، فتعمدوا إخفاء بعض آياته، وهنا كان سوء التقدير، جعلوه مجرد كتاب يخفون ما يريدون إخفاءه ويظهرون ما يريدون، هكذا أصبح الكتاب السماوي مجرد مصدر من مصادر التأييد لما هم عليه بدلاً من أن يكون بمثابة السيد للعبد، ولأن الكتاب لم يعد سيداً في قلوبهم، لم يقدّروا الله حق قدره.
# 3- القرآن والصلاة
قدر الكتاب من قدر الله، فلا يمكننا أن نفك هذا الارتباط، فكما نقدر الله، علينا أن نقدر هذا الكتاب ونضعه موضع السيادة وهو الآمر الناهي. إذاً هذا الكتاب الذي هو بين أيدينا (القرآن الكريم ) ليس مجرد كلمات في قرطاس، إنه نور ونوره حي لأن صاحبه هو الحي الذي يحيي ويميت، وكلماته هي النور الذي يسكن في القلوب، وقد وجدنا في الحلقة السابقة أن لقراءة القرآن علاقة وطيدة بالصلاة، ويمكننا أن نلحظ ذلك في الآية التالية:
﴿ وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ الأنعام (92)
وهذا كتاب أنزلناه مبارك : إشارة إلى القرآن الكريم، وأن القرآن الكريم مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، الآية تقول أن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بهذا الكتاب، وهم على صلاتهم يحافظون. الذين كفروا برسالة النبي محمد (ص) يعلمون أنه مصدق لما معهم، ويعلمون أنه مصداق لما وعدهم الله في التوراة، ولكنهم أخفوا هذه الحقيقة في التوراة بغية أن لا تتم محاججتهم، فهم بهذا قد ضيّعوا التوراة ولم يقدروها، أما الذين آمنوا بما نزّل على محمد وهو الحق مصدقٌ لما معهم فقد اتبعوا الحقيقة التي كتبها الله لهم في التوراة، ﴿ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ ﴾ الأعراف (157)، وهنا نتحدث عن مبدأ الإحلال في هذه الآية، فما الذي نقصده بمبدأ الإحلال؟
أن النقيض للذين لم يؤمنوا بالرسول هم الذين آمنوا، والنقيض للذين لم يقدروا كلمات الله، هو الذين قدروا كلمات الله، ولكن هنا قوله تعالى : ﴿ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ حلت محل عبارة تقدير الكتاب، وهذا يؤكد ما وجدناه في الحلقة السابقة من أن الإيمان بالكتاب كله هو المصداق الحقيقي للمحافظة على الصلاة، وأن تضييع قيم الكتاب السماوي هو تضييع وهدم للصلاة الحقيقية والحمد لله رب العالمين.