مدونة حلمي العلق

هل نحن معرضون عن القرآن؟

 | نحن والقرآن

مقدمة

القرآن الكريم إما واقف أو متحرك، ونحن من يقرر حركته أو وقوفه، هو واقف حين نتخذه أساطير الأولين، ومتحرك حين نجعل منه محطة للتغير، هو يتحرك بنا يغيرنا وينتقل بنا من نقطة إلى أخرى، من الظلمات إلى النور، من النفس الأمارة إلى النفس المطمئنة، ينقلنا من القلب المريض إلى القلب السليم، هذا هو حراك القرآن الكريم، وهذا هو كرم القرآن الذي ننعته به، هو كريم على هذه الأنفس المتعبة المشتتة، القرآن متحرك حين ننطلق به إلى الله من خلال اتهام أنفسنا، ويقف عن فاعليته وعن نقلنا إلى الهدف حين نزكي أنفسنا.

القرآن الكريم مشروع نجاة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، إنه العلم المنجي. وعلينا أن نأخذ من القرآن المعايير التي نقيس عليها أنفسنا، فإن وجدنا أنفسنا مطبقين ومتطابقين مع هذا المعيار نحمد الله ونستمر ، وإن كان الأمر خلاف ذلك وجب التغيير.

نطرح اليوم أحد تلك المعايير التي استعرضها القرآن الكريم في بداية سورة فصلت وهي الإعراض عن الآيات، لنقف نهاية هذه الحلقة متسائلين: هل نحن مقبلين أو معرضين عن آيات الله؟

الإعراض عن آيات الله

يقول الله سبحانه وتعالى في بداية سورة فصلت :

﴿ حم ۝ تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ۝ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ۝ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ فصلت (1) - (5)

القرآن الكريم بشير فهل انتهت بشارته بعد أن رحل الرسول (ص) من هذه الدنيا، وهو نذير فهل انتهي إنذاره لأننا مسلمون بالجغرافيا والتاريخ والوراثة؟ من أسماء القرآن الكريم البشير، ومن أسمائه النذير لأنها أفعاله، يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات طبقاً لما أنزل في الكتاب أن لهم أجراً حسنا، وينذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير، ينذر بيوم القيامة التي يجب أن تكون حاضرة في قلب المؤمن مادام حياً ولاينس ذلك اليوم، فهل نرى أفعاله؟ أو هل تتفاعل أنفسنا وتخشع قلوبنا لهذا التبشير وهذا الإنذار؟

هذا البشير النذير لازال ينذرنا بلغتنا العربية، ونحن أمام هذا الإنذار إما أن نقبل عليه أو نعرض عنه، ولكن الاية تصف استقبال الكثير من الناس لهذه البشارة وهذا الإنذار بالإعراض، ونتيجة لهذا الإعراض أُصيبوا بالصمم الغيبي فما عاد أحد يسمعه ولا يعيه، لأن السمع يكون لمن يُقبل على القول، ومن يرغب في سماعه، أما الذي يُعرض عنه فلن يسمع.

هذه الآيات تعطي أحد المقاييس الهامة التي تكشف علاقتنا بهذا الكتاب العزيز، وهنا محطة يجب أن نتوقف عندها فلا نمر عليها مرار المتغافل، هل نحن مقبلون على هذا الكتاب أم معرضين عنه؟ القرآن الكريم يحفظ لنا دعوة النبي محمد (ص) بعد ألف وأربعماءة عام غضة طرية، هي ذاتها الكلمات التي أنذر بها النبي قومه، هي ذاتها الكلمات التي بشّر بها المؤمنين، هو ذاته الكتاب الذي بلّغه لقومه وللعالمين، فماذا عنا نحن؟ نحن اليوم وبعد هذه القرون هل نرد كما ردت تلك الأقوام السابقة أن قلوبنا في أكنة عنه؟

دعوة النبي محمد قائمة لم تمت لأن الكلمات لازالت بين أيدينا، والله سبحانه وتعالى يحاسبنا على هذه الكلمات كما حاسب تلك الأقوام، فكيف نستقبلها ؟ وكيف هي ردة فعل قلوبنا تجاهها؟ ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ البقرة (118) ، وهنا تكمن المشكلة في تشابه ردود الأفعال وتشابه القلوب، فهل وعينا هذا الكتاب العربي الذي فصلت آياته؟ هل أحدث فينا تفاعلاً تجاه بشارته؟ أو هل خشينا من إنذاره؟ هل أقبلنا عليه إقبال المستبشر؟ هل أتيناه إتيان الخائف الذي يريد أن يبحث له عن سبيل للنجاه؟ ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ الفرقان (57) . إذاً ردود أفعالنا وما تحمله قلوبنا تجاه هذا القرآن هو الحكم ؟

الوقر والحجب

﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ فصلت (5)

وتظهر مشكلة القلب مرة أخرى، هذا القلب الذي لا يمكنه أن يستقبل كلام الله، لا يعيه ولا يستسيغه، القلوب في أكنة معزولة عن استقبال كلام الله، وفي الآذان ما يمنعها من السماع، أولئك الأقوام يصرّحون بأن قلوبهم في أكنة، لا تستطيع استيعاب قول الرسول، لا يمس قلوبها، بل إن قلوبها مغلفة بكنانة لا يصل إليها الحديث، هذا اعتراف، وهذا الاعتراف على نحو الرغبة في مواصلة المسير بهذا القلب القاسي الأصم، ويتواصل الاعتراف بأن الآذان موقورة فلا يصلها القول، وبأنهم في واد والرسول في واد آخر، وأن الحجب تمنعهم من الاستجابة لهذا القول أو تطبيق أوامره لذا يقولون للنبي : ﴿ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ اعمل بما تؤمن، اعمل على أساس ما تأمر به من هذا الكتاب، إننا عاملون على أساس ما اتخذناه كعروة وثقى وكوسيلة للنجاة يوم القيامة. هم لهم أعمالهم، ولا يريدون أن يلتزموا بالأعمال التي جاء بها النبي، ولكن من أين أتى النبي بهذه الأعمال؟ الآيات تجيب: ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ﴾

دعوة الرسول

ماذا كان رد النبي محمد (ص) عليهم؟ هذا هو قوله ورده الذي واجه به المعرضون عن كتاب الله، لا زال حياً، ولك أن تتخيل أن هذه الآية قد خرجت من النبي محمد (ص) الآن، فإذا قال له الله سبحانه وتعالى " قل " فهذا يعني أن النبي قد بلغ هذه الآية لقومه المعرضين، ﴿ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى ﴾ ، دعوة النبي لقومه هي أن يستقيموا إلى الله بهذه الآيات، أن يستقيموا لله في أوامره الصادرة من كتابه العزيز، ويستغفروه عن الانحراف عما أنزل الله لأن الويل كل الويل للمشركين.

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ فصلت (6)

هذه الدعوة هي نصاً دعوة الرسول الأكرم بدون أن يتغير منها حرف واحد، هي دعوة الرسول طبق الأصل يحفظها القرآن الكريم حتى نسمعها بعد 14 قرناً، هذه دعوة النبي الأكرم الذي ننتمي لأمته ونحبه ونجله فكيف تكون ردة فعلنا تجاه دعوته؟ هل سنقول له قلوبنا لا تقبل على القرآن يارسول الله؟ أو أن آذاننا لا تنجذب لسماع آياته؟ أو أننا في شغل عنه بأشياء أخرى هي أهم بالنسبة لنا؟ فبيننا وبين الرسول حجاب إذاً! فماذا سيرد الرسول؟ الآية واضحة: إن كنتم توحدون الله وتقدرونه حق قدره فقدروا كلماته وآياته، إيمانكم وتوحيدكم لله يتجسد في استقامتكم على أوامره والتزامكم بكتابه، فتوبوا إليه واستغفروه وويل للمشركين؟

خاتمة

حتى نتحرك بهذا القرآن ونصل به إلى المراتب التي يريدها الله للمؤمنين، علينا أن لا نقف عند المعرفة، بل نتحرك به للتغيير، وهذه الاتهامات التي نوجهها لأنفسنا هي من أجل أن نتحرك، ومادامت الفرصة أمامنا ونحن على قيد الحياة فإنه يمكننا أن لا نكون معرضين عن آيات الله، وأن نقبل على هذا الكتاب بقلوب محبة للكتاب، وأن نستبشر إذا بشرنا القرآن، وأن نحذر ونخاف إذا أنذرنا، وأن نطبق تعاليمه التي أنزلها الله للناس كافة والحمد لله رب العالمين.