مدونة حلمي العلق

عقيدة الأمنيات

 | wishes

مقدمة:

تناولنا سابقًا 10 مفاهيم قرآنية بصورة مختصرة، ونبدأ في هذه السلسلة للحديث عن واحدة من تلك المفاهيم بشيء من التفصيل، ولقد أدركنا من خلال السلسلة السابقة أن العقيدة هي بناء متكامل مترابط بين المفاهيم لا فصل بينها، بل إن كل مفهوم يوضح المفهوم الآخر، ولذلك فإن فهم أحد هذه العناوين يتكامل بفهم العناوين الأخرى.

عقيدة الأمنيات هي أحد المفاهيم التي يؤكد القرآن الكريم على ضرورة دحضها وطردها من القلوب والأفكار، وسنجد من خلال البحث إن شاء الله، أنها مرتبطة بمفاهيم أخرى، بملة إبراهيم ومفهوم القراءة والأمية، ومفهوم الشرك، وعقيدة القسط الرباني، ونعلم من خلال طرح المفاهيم العشر سابقًا أنها كانت مترابطة فيما بينها وتقود في النهاية إلى تكوين كيان عقائدي متكامل.

سيرتكز البحث على أربع مقاطع من الآيات في أربع سور مباركة إن شاء الله، لن يقتصر الحديث عليها فقط، ولكن سيكون أكثر الحديث عليها وهي:

1- سورة البقرة الآيات من آية(75) إلى آية (82) في صفحتي 11 و 12

2- سورة النساء من آية (116) إلى آية (126) في صحفتي 97 و 98

3- سورة الحج من آية (49) إلى آية (54) صفحة 338

4- سورة النجم من آية (23) إلى آية (41) صفحتي 526 و 527

سنتناول كل مقطع من هذه المقاطع أكثر من مرة، ندرسة في كل مرة حسب العنوان المعطى في الحلقة، وسنلاحظ حضور المفاهيم التي تدارسناها سابقاً بشكل متداخل.

حديثنا في هذه الحلقات إن شاء الله عن ما يمكن أن نسميه بعقيدة الأمنيات، وليس عن الأمنية كشعور يختلج في النفس رغبة في الحصول على شيء ما، وللتعرف على هذه العقيدة وجب تمييزها عن غيرها ومن خلال الآيات الشريفة، فهناك أمنيات تتعلق بما هو دنيوي ويتحدث عنه القرآن الكريم أيضًا ولكنها ليست محط الحديث والبحث، ولكن الحديث عن ما يمكن أن يسمى بـ (عقيدة الأمنيات) وهو معتقد باطل يتسلل إلى القلوب فيما يتعلق بالنجاة في الآخرة وليس بالدنيا، هذه العقيدة لها مقدمات ومسببات وآثار. الهدف الأسمى من هذه الحلقات هو التغيير والسعي للتطابق مع ما أنزل الله وليس لمجرد اكتساب معارف وعلوم قرآنية وحسب.

نبدأ في هذه الحلقة للتفريق بين الأمنيات العامة والأمنية الخاصة المعنية في هذا البحث وهي التي يمكن أن نسميها عقيدة، وسنعرض للأمنية العادية مثالين، ثم ننتقل للآية التي تعطي معنى الأمنية العقائدية في سورة البقرة آية (111).

الأمنيات

1- تمني الفضل

نريد أن نفرق بين أمنيات الدنيا، وبين عقيدة الأمنيات التي هي محط بحثنا وحديثنا في هذه الحلقة، وللتفريق بينهما نذكر المثال التالي من سورة النساء المباركة. يقول الله سبحانه وتعالى:

﴿ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ النساء (32)‍

في هذه الآية المباركة ينهى الله سبحانه وتعالى الإنسان عن تمني الفضل الذي تفضل الله به على أحد ما، وعوضًا عن ذلك على الإنسان أن يسأل الله من فضله، فإن الله سبحانه وتعالى عليم به كما أنه عليم بكل شيء. هذه الآية الشريفة تتحدث عن الأمنية الدنيوية، التي تخطر على قلب الإنسان نتيجة المقارنة لما بين يديه وما بين يدي الآخرين، والله سبحانه وتعالى يأمر الإنسان أن يتحكم في هذه المشاعر. هذه الأمنية لا علاقة لها بالأخرة وما يجري فيها، فهي لا تقع في مدار المعتقدات ولكنها في مدار الخواطر والأحاسيس فقط، فلا يمكن أن نسمي هذه الأمنية بالعقيدة، وبالتالي فإن هذه الآية هي خارج بحثنا في هذه الحلقات.

هذا هو المثال الأول حول الأمنية التي تعني المشاعر التي تختلج في النفس، ونأخذ مثالًا آخر من سورة الجمعة حول تمني الموت.

‌‍2- تمني الموت

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الجمعة آية (7)

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)﴾ سورة الجمعة.

هذه الآية الشريفة من سورة الجمعة تتناول عقيدة اليهود في أنفسهم، حيث أنهم يعتقدون أنهم هم أولياء الله وهم أحباءه وأنهم هم أقرب الناس لله ولدينه ولا أحد غيرهم، ولكي يعالج القرآن الكريم هذه المشكلة في نفوسهم، يكشفهم أمام أنفسهم، ويأمُرهم أن يتمنوا الموت، إن كانوا صادقين في دعواهم أنهم أولياء لله وأنهم هم الأقرب له والأعلم بما يريد، وفي هذا امتحان لهم وامتحان لصدق ادعاءهم، وفي هذه الآية أمر رباني لهم بتمني الموت، وهو مثال آخر على الأمنية التي هي خارج إطار المقصود في بحثنا، وخارج ما سنتناوله في هذه الحلقات إن شاء الله.

أما ما سنتناوله إن شاء الله في هذا البحث فهو ما يسميه القرآن الكريم بالأمنية، وهي الظنون الباطلة التي تحمل عقيدة الخلاص يوم القيامة، وللتعرف على هذه العقيدة ، ندرس الآية (111) من سورة البقرة :

3- عقيدة الأمنيات

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة آية (111) :

﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ سورة البقرة (111)

تحمل هذه الآية الشريفة تعريف الأمنية العقائدية المتعلقة بالخلاص يوم القيامة بشكل واضح، هذه الآية الشريفة تتحدث عن ما يمكن أن نسميه بـ (عقيدة الأمنيات) وهي اعتقاد دخول الجنة أو ضمانها بما يضعف العمل لدى المؤمن كونه اعتمد على ظنه أو تقديره بذلك الضمان ومضى عليه. ندرس هذه الآية الشريفة في ثلاث مقاطع حتى ندرك المعنى المراد من عقيدة الأمنيات:

1- "وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى"

مسألة دخول الجنة لا تدور في إطار توقعات الإنسان، أو تخميناته، إنها مسألة تتعلق بمعتقداته الغيبية، وقد بدأت هذه الآية الشريفة بكلمة "وقالوا" أي أن هذا الذي ستعرضه الآية إنما هو مجرد ادعاء. ثم يبدأ هذا الادعاء بنفي دخول الجنة لأي أحد كان باستثناء الطائفة، وهذا الاستثناء القاطع تعتقد به كلا الطائفتين، و كل طائفة تنفي عن الطائفة الأخرى دخول الجنة، فهي تقول أن الجنة لليهود وليس لأي أحد آخر بما فيهم النصارى، وكذلك النصارى يقولون أن الجنة خالصة لهم من دون الناس وليست لأي أحد آخر بما فيهم اليهود.

2- " تلك أمانيهم"

هنا تعقب الآية على هذا المعتقد الغيبي المدعى من قبل كل طائفة من هتين الطائفتين، أن هذا الادعاء ماهو إلا أمنيات، ولأنها تعمل في الغيبيات كانت أمنية عقائدية وليست أي أمنية، وتسميتها أمنيات هي تسمية قرآنية، هي تسمية تعطي الحقيقة لما تقوله كل طائفة وما تدعيه لصالحها أو ضد الآخر. هذه العقيدة لا تستند إلى برهان رباني، ولكن كونها ادعاء وتقدير خاطئ بمستقبل هذه الطائفة أو تلك في يوم القيامة، لذلك أسماها القرآن الكريم بالأمنية.

3- " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"

هذا أمر موجه للنبي محمد(ص) صاحب هذه الرسالة النورانية، هو رسول الحق لتلك الأمم التي تعيش الظلامات، والآية تأمره بأن يوجه هذا السؤال الذي يُوقظ من يشاء الله أن يُوقظه من سبات الأمنيات العميق: "هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" سؤال يعيد الحق إلى نصابه، فالبرهان هو الدليل القاطع الذي لا لبس فيه ومصدريته تكون من الكتاب السماوي، وهم أهل كتاب، وكتاب الله بين ظهرانيهم، وعليهم أن يعودوا إلى كتابهم ويأتوا ببرهانهم على هذا الادعاء، وما لم يأتوا بالبرهان يصبح ادعاؤهم باطلًا، وعقيدتهم مجرد أمنيه، فالصدق ما صدقه الكتاب، وما خالفه فهو الكذب.

خلاصة:

المقصود بـ (عقيدة الأمنيات) هو الاعتقاد بدخول الجنة على أساس طائفي يضعف قيمة العمل، والاعتقاد بنفي دخول الجنة لأي طائفة أخرى لا تعتنق هذا الانتماء، وهذا يعني أن منطلق هذه العقيدة ليس البرهان ولا الكتاب السماوي، ولكنه التعصب الأعمى واتباع الأثر.

المقصود بالعمل، هي الأعمال التي تقرب لله، وتَضْعُف قيمتها أي تُصبح غير ذات جدوى، فلا قيمة لعمل العامل أو جهده مادام قد اعتنق ذلك المعتقد، فإن اعتنقه دخل الجنة، وإن لم يعتنقْه كان من الخاسرين. فبذلك المعتقد (حسب الظنون) تنال المغفرة، وبه يكون ضمان الجنة لكل أصحاب هذه الفرقة أو تلك الطائفة، وبدونه تكون الخسارة.

لقد تناول القرآن الكريم هذه العقيدة كمرض تصاب به الأمم الموحدة التي أنزل الله عليها كتابًا سماويًا وتحمل مسؤوليته، وتصاب به حين يضعف تمسكها بما أنزل الله وحين يصبح كلامه سبحانه شيئًا ثانويًا مستغنًى عنه في حياتها، وتكون النتيجة أن تبتعد عنه وعن قيمه، وتستبدل اليقين بالظنون وتقبل بها، وهذه العقيدة مصدرها الظنون إذ أنها تثبّت بنصوص خارجية غير الكتب السماوية، وتتعزز في النفوس لأنها تُؤخذ بشكل جمعي مستندة إلى الانتماء إلى طائفة محددة كما اتضح من الآيات السابقة.

سيكون حديثنا في الحلقات القادمة إن شاء الله عن هذا المعتقد بجميع جوانبه التي تناولها القرآن الكريم، إذ إن لهذا المعتقد مسببات و نتائج نعرضها إن شاء الله.