عقيدة الأماني - الفساد
| wishes# مقدمة
هذه هي الحلقة الأخيرة من سلسلة عقيدة الأمنيات، التي استعرضنا فيها هذا المفهوم بشيء من التفصيل من خلال التركيز على أربع مقاطع في القرآن الكريم. هذا المفهوم كما هي بقية المفاهيم، يتكرر في القرآن الكريم على مستوى آيات أو مقاطع أو سور بالكامل في مواضع كثيرة، ولكن كان التركيز على هذه المقاطع الأربع لدراسة المفهوم الأساسي وفهم ارتباطه ببقية المفاهيم .
وتعد هذه المفاهيم أساسًا مهماً للفهم الأشمل للقرآن الكريم، فكلما استوعب القارئ المتدبر هذه المفاهيم كلما كان حظه في فهم القرآن أوفر وأكبر. اليوم نختم هذه السلسلة بذكر ثلاث آيات ذكرت مفهوم الأمنيات في غير مواضع المقاطع الأربعة التي ارتكز عليها البحث خلال الحلقات السابقة، ونتعرف منها على الفساد الذي تخلفه عقيدة الأمنيات، ولذلك كان عنوان حلقة اليوم الأمنيات والفساد، وهو فساد يضاف إلى فساد الوقوع في الشرك والاستهانة بالذنوب والمعاصي والكبائر، وتضييع العمل الصالح، نتعرف على ذلك من خلال ثلاث مقاطع في ثلاث سور وهي:
1- سورة القلم من آية (35) إلى (41)، ونؤكد من خلالها على تأثير عقيدة الأمنيات على إفساد الآخرة.
2- سورة البقرة من آية (111) إلى آية (113) ونتعرف من خلالها تأثير عقيدة الأمنيات في إحداث الفرقة، والشعور بالتعالي والتكبر على الآخر.
3- وأخيرًا وليس بآخرًا في سورة ص من آية (27) إلى (29) لنرى ارتباط الوقوع في عقيدة الأمنيات في إفساد عقيدة القسط الرباني.
هذه الآيات لا تحصر الآيات أو السور التي تناولت مفهوم الأمنيات، لكنها تمثل إنموذجًا لتواجد هذا المفهوم في آيات أخرى.
# الأمنيات والفساد
# أولاً: عقيدة الأمنيات والأخرة
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)﴾
نتحدث عن هذه الآيات بصورة مختصرة وعن علاقتها بعقيدة الأمنيات، من خلال ذكر المفهوم وبعض الأفكار الواردة فيه حسب دراستنا السابقة:
1- الآيات ترفض عقيدة مساواة التعامل بين المسلم للآيات والمطبق لها، وبين المجرم المعتدي الذي يتعمد مخالفتها، وهذا الرفض، هو رفض لعقيدة الأمنيات ضمناً، ورفض لعقيدة (تزكية النفس). "أفنجعل المسلمين كالمجرمين" يطرح هذا السؤال بصيغة استنكارية، ولم يُطرح هذا السؤال إلا لكثرة من اعتقد بهذا المعتقد الباطل، وما هو إلا نتاج من نتاجات عقيدة الأمنيات الباطلة، أن يتساوى المحسن مع المسئ، فقط لأن المسيء ينتمي إلى جماعة ما.
2- نلاحظ ارتباط هذا المعتقد بالخروج عن حاكمية الكتاب، في قوله تعالى : " أم لكم كتاب فيه تدرسون"، السؤال الذي تسأل عنه الآية هل هذه العقيدة من كتاب الله؟ والإجابة هي: لا ، والآية بهذا التساؤل تحصر الحاكمية للكتاب، وترجعهم إلى المصدر الحق، وتنفي أحقية أي مصدر آخر في أن يُدخل عقيدة كهذه في الدين.
3- " أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة"، كلمة " الأيمان" تعبير آخر عن كلمة " العهد" التي وردت في موضوع الأمنيات "قل أتخذتم عند الله عهدًا" وعلمنا ارتباطها بالكتاب المنزل، والآية تنفي وجود عهد لهم من عند الله بما يعتقدون.
4- أخيرًا نلحظ ارتباط هذه المعتقدات بالوقوع في الشرك في قوله تعالى: " فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين" وهذا بسبب اعتقادهم بشيء لا وجود له في الكتاب، ولأنهم اعتمدوا ذلك من أحد آخر ، فقد اعتبره القرآن الكريم شريكًا لله.
وبهذه اللمحة السريعة يتضح تواجد مفهوم الأمنيات في هذا المقطع الشريف، وكذلك تأثير هذه العقيدة على إفساد الصورة الحقيقية للآخرة، الأمر الذي يتيح الفرصة للخروج عن طاعة الله وتلبية الأهواء ومخالفة نصوص الكتاب المنزل باطمئنان وبلا خوف، وهو ما يفسد الصورة الحقيقية والمؤثرة للآخرة .
# ثانياً : الفرقة والتكبر على الآخرين
﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)﴾
الآية تتحدث عن أهل الكتاب الذين اعتقدوا أن الجنة خالصة لهم ولا يدخلها أحد غيرهم، وهو نوع آخر من أنواع الفساد الذي تخلّفه عقيدة الأمنيات، ثم تتحدث عن انعكاسات وتداعيات مثل هذا المعتقد في علاقاتهم مع الآخر.
فمن ضمن الجنة واقتصرها على نفسه وعلى جماعته برهم وفاجرهم، ثم نفى دخولها على غيرهم حتى وإن عمل الصالحات وهو مؤمن، فقد ارتفع على غيره وتصاغر حجم الآخر في نظره، وتضاءل وزنه، فمهما عمل الآخر ومهما تقرب إلى الله، فعمله باطل لا يدخله الجنة، ولهذه المعتقدات أثرها السلبي في تغيير النظرة للذات، وإفساد العلاقات وادخال صفات التكبر والحقد والحسد و إقصاء الآخر ونبذه.
1- "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء"
هذه العبارة تعكس الأثر السلبي الذي خلفته عقيدة الأمنيات وعقيدة تزكية النفس في النظرة السلبية القاتمة تجاه الآخر، الآية تقول أن اليهود يعتقدون أن النصارى ليسوا على شيء، أي ليس لديهم دين ولا هم على حق، واليهود يبادلونهم نفس المعتقد. كل طائفة تتعالى على الأخرى وتنكرها.
2- " وهم يتلون الكتاب " كيف يقولون مثل هذا القول وهم يتلون الكتاب؟! الكتاب المنزل من عند الله يرفض أن تنكر الطوائف التي تنتمي إلى ملة إبراهيم بعضها البعض، وهذا يشير إلى فساد آخر وهو أن تلواتهم للكتاب أصبحت تلاوة سطحية لا أثر لها، بسبب تمكن العقائد الباطلة والأفكار الشيطانية منهم، وهذا يؤكد من جهة أخرى على أن تلاوة الكتاب يجب أن تحمل طابع التدبر والتفكير أثناء تلاوتها من أجل التفعيل في الأقوال والأفعال.
# خلاصة
أعطت هذه الآية المباركة جانبًا آخر من جوانب الفساد الذي أنتجته عقيدة الأمنيات، وهو التفرق والتشرذم والتعالي والحسد والبغضاء، ونبذ الآخر بدلًا من البحث عن القواسم المشتركة التي تقرب منه تمشيًا مع ما يحث عليه الكتاب والتزاماً بما تؤكده وصايا ملة إبراهيم.
# ثالثًا: إفساد عقيدة القسط
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (29)﴾
1- الآية (27) تتحدث عن أحد آثار عقيدة الأمنيات على الاعتقاد في الله، فالله سبحانه وتعالى قائم على هذا الكون بالقسط على كل شيء، وهذا القيام يشمل محاسبة الإنسان يوم القيامة، أما الاعتقاد بالتعامل بتمايز فهو نفي ضمني لهذه الحقيقة من قبل من اعتقد بذلك.
لكل فعل أو معتقد مفهوم رباني أعلى هو أصدق من الفهم البشري الدارج، واعتقاد الإنسان الباطل في أن الله سيساوي بين المجرمين والمسلمين في الحساب يوم القيامة له معنى رباني أعلى ، وهو أنه بهذا المعتقد هو يعتقد أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلًا، وخلقهما عبثًا ، وابتدعها لعباً، لأنه اعتقد أن لا قانون ولا نظام لهذا الكون " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً " ، والإنسان باعتقاده عقيدة الأمنيات، اعتدى على الذات الإلهية من حيث لا يشعر، وهو الأمر الذي تحذره منه الآيات، وتبين له خطورة ذلك المعتقد في نفي عقيدة القسط الرباني.
ثم تقول الآية (28): " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار" ، إن كنت تعتقد بأن الله سيعامل الناس بهذا الأساس، فقد اعتقدت أن الله قد خلق السماوات والأرض باطلًا.
2- أما الآية الأخيرة في هذا المقطع وفي هذه السلسلة فهي آية (29)، والتي تعطي هدفاً كبيرًا وهاماً لتنزيل القرآن الكريم، وهذا الهدف له علاقة بتهديم عقيدة الأمنيات، " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته" هذا القرآن الكريم كتاب مبارك فيه الخير والعطاء الكثير، أنزله الله على نبينا محمد (ص) حتى نتدبر آياته، ونتدبره من أجل التذكر " وليتذكر أولوا الألباب" حتى لا نقع في الغفلة والنسيان، وأن نبقى في مساس دائم بهذه الآيات، لتبقى عقيدتنا في الله وفي الآخرة حية لا تضعف، والنسيان وهو عكس التذكر هو نتاج ضعف العزيمة والإيمان، ومادام الإنسان ذاكرًا لما أنزله الله عليه كان ذلك درعاً حصيناً من أن يستدرجه الشيطان بمكائده دون أن يشعر ويغزوه بعقائد الأمنيات. اللهم اجعلنا لك من الذاكرين الشاكرين.
# خاتمة
خلال هذه الحلقات تحدثنا عن عقيدة الأمنيات، الحلقة الأولى كانت حول الفارق بين الأمنيات العادية والأمنيات كعقيدة، ثم تحدثنا في الحلقة الثانية عن عقيدة العمل التي يرتضيها الله سبحانه، وقد وجدنا أن عقيدة العمل لها ارتباط وعلاقة بمفهوم آخر وهو ملة إبراهيم، بعدها وفي الحلقة الثالثة رأينا علاقة الوقوع في الأمنيات بالأمية والتي تعني علاقتها بمفهوم القراءة ، أما في الحلقة الخامسة فقد انتقلنا إلى الحديث عن دور الشيطان الرئيسي في احراف الأمم السابقة عبر إيقاعهم في فتنة الأمنيات، واستعرضنا الطريقة الشيطانية في إيقاعهم فيما أسمته مقطع الآيات من سورة الحج بالفتنة، وبعد الوقوع في الفتنة اكتشفنا أن الشيطان إنما استدرجهم للوقوع في الشرك وكان ذلك في الحلقة السابعة، أما في الحلقة السابقة وهي الحلقة الثامنة، فكان الحديث عن العمى عن الكتاب، وهي مرحلة خطيرة تنذر باللا عودة إلى كتاب الله بسبب الأمنيات والتكبر.
أما في هذه الحلقة التاسعة والأخيرة من هذه السلسلة فقد تمت الإشارة إلى بعض الآيات التي تناولت عقيدة الأمنيات في آيات أخرى ليست من المقاطع الأربعة الأساسية، وهو ما يؤكد تواجد هذا المفهوم في مقاطع أخرى كثيرة، وفي سور متعددة وبصيغ مختلفة.
اللهم اجعل ما يلقي الشيطان في روعي من التمني والتظني والحسد ذكرًا لعظمتك وتفكرًا في قدرتك، وتدبيرًا على عدوك ، اللهم وفقني إذا اشتكلت علي الأمور لأهداها، وإذا تشابهت الأعمال لأزكاها، وإذا تناقضت الملل لأرضاها.
اللهم ما كان صوابًا فبتسديدك، وما كان خطئًا فمن أنفسنا، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.