عقيدة الأماني - الفتنة
| wishes# مقدمة
علمنا من الدرس السابق أن الشيطان الرجيم يفسد عقيدة العمل فيبطلها إما بالتقليل من أهميتها، أو بصرف الطاقة الإيمانية والحركية في أعمال لا قيمة لها ولا وزن لها يوم القيامة، وهذا هو ما آلت إليه الأمم السابقة في عهد النبي محمد (ص). اليوم في هذه الحلقة ندرس أحد أفعال الشيطان الذي يكشفه القرآن الكريم للنبي محمد (ص)، ويكشف من خلاله حقيقة ما جرى على الأمم السابقة، وكيف مكر بهم الشيطان دون أن يشعروا، ندرس ذلك في سورة الحج في أحد المقاطع الأربعة التي خصصناها لدراسة عقيدة الأمنيات، وهو المقطع الذي لم نتناوله بالدراسةفي هذه السلسلة لحد الآن.
# تدبر الآيات
1- كلمة (تدبير) تستخدم للدلالة على كل تفكير يسبق الحدث قبل أن يقع، فالكلمة مرتبطة بالتخطيط المسبق للحدث المراد تدبيره، وتستخدم للدلالة على الأعمال والتجهيزات التي سبقت في الزمان من أجل إنجاح أو إخراج حدث أو شيء ما، لذا تستخدم في موضوع التجهيزات المنزلية، فنقول تدبير منزلي، فالمرأة المدبرة مثلاً تستعد للأحداث قبل وقوعها، فيكون استعدادها المسبق لذلك الحدث بالتفكير والتجهيز تدبيراً للحدث، وكل تفكير يبذله الإنسان من أجل استقبال شيء ما هو تدبير لأنه يقوم بدراسة احتياجات ذلك الشيء والاستعداد المسبق له قبل أن يقع.
2- أما كلمة (التدبر) فتستخدم للدلالة على التفكير في الأمر بعد أن يقع، وفي استرجاع الأفعال التي أدت لحدث ما، فلو حدث حادث ما، نقول تعالوا نتدبر في الأمر: ما الذي تسبب في وقوع هذا الحادث؟ ما هي مقدمات هذا الحدث؟ وفي التفكير في الإجابة على تلك الأسئلة وأمثالها استرجاع لما قبل الحدث في الزمان ولكن بعد أن يكون الحدث قد وقع فعلًا ولا يمكن تغييره ، وفي هذه الحالة يوجد فرصة للتفكير ولكن لا يوجد فرصة للتغيير أي تغيير الحدث.
فلو نشب حريق في مكان ما، لا نقول تعالوا ندبر الأمر، ففي استخدام هذه الكلمة نكون نحن من تسبب في ذلك الحريق، ولكن نقول تعالوا نتدبر في الأمر، للدلالة على أننا نرغب في معرفة مسببات ذلك الحريق وملابسات الحادث.
وإذا أخذنا كلمة التدبر في نطاق النص فإننا نقصد بذلك: التفكير في الجملة المحددة ولكن بعد النظر لمقطع النص كاملًا دون اجتزاء، مما يتيح لنا وضع تلك الجملة في سياقها،وهذا ما سيمكننا من فهم طبيعة الألفاظ التي استخدمت فيها الجملة، وعدم الذهاب بها إلى أفهام مفتوحة ومختلفة أو بعيده عن ما يريده الكاتب، فكما أن الأحداث حتى تفهم جيدًا لا تجتزأ، كذلك النصوص.
وفي موضوع فهم القرآن الكريم نحتاج للتفكير في آياته على أساس منهج التدبر، وخصوصًا الآيات التي يشتبه علينا فهمها، ومنهج التدبر يكون من خلال فهم متكامل لمقطع الآيات التي ذكرت فيها الآية المعنية من خلال فهم الآيات السابقة واللاحقة، وبعدها نعود للآية المراد فهمها لنُحكم فهمها ونضبط اتجاهها حسب الموضوع، حتى لا تنفلت إلى اتجاهات أخرى.
وهذا ما قمنا به في دراسة المقاطع الأربعة، وبالمثل سنتناول هذا المقطع إن شاء الله، حتى نقترب من فهم آية (ما يلقي الشيطان) الآية (52) من سورة الحج، فالآية حتى تفهم يجب أن توضع في سياقها لا أن تقتطع من السياق، إذ لا يصح أن نتعامل مع الآية كجزء مستقل عن السياق الذي أتت فيه.
عنوان حلقتنا لهذا اليوم هو الفتنة، وهذا العنوان مستوحى من نفس الآيات الشريفة، كما سيتضح من خلال الدراسة أن شاء الله، هذه الفتنة لها علاقة بفتنة الشيطان الرجيم في موضوع الأمنيات، ولكي تتضح تفاصيل هذه الفتنة، سنتدبر مقطع الآيات في هذه الحلقة ، وفي الحلقة القادمة نركز أكثر على آية (54 ) إن شاء الله .
# الفتنة
ندرس الآيات من آية (49) وحتى الآية (54) دراسة هيكلية لمعرفة الموضوع :
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) ﴾
1-﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49))
خطاب من الرسول الكريم إلى أمته بصفته وهي نذير، وهذه الصفة فيها تخويف، وعلى أساس الاستجابة يكون التصنيف.
2- ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)﴾
الفئة الأولى هي التي استجابت هم الذين آمنوا ، وفي المقابل الفئة الثانية وهم الذين لم يؤمنوا، الفئة الأولى عملت الصالحات استجابة لإيمانها، أما الفئة الثانية فتجيب الآية الثانية عن طبيعة استجابتها:
3- ﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)﴾
بدلًا من أن يعملوا الصالحات، سعوا في آيات الله معاجزين، فما طبيعة هذا السعي؟ وكيف نقابل العمل الصالح بإعجاز الآيات؟
السعي لإعجاز الآيات، هو تحويل الآيات إلى آيات عاجزة، والعاجز لا فائدة منه، والذي لا فائدة منه تتحول عنه الأنظار إلى غيره، إذًا السعي في إعجاز الآيات هو سعي لتعطيل مفعول الكتاب المنزل.
ومن المقابلة بين الآيتين (50) و (51) نفهم أن الذين عملوا الصالحات إنما استجابوا للآيات المنزلة وأسلموا لها، ولقد رأينا في أحد المفاهيم العشرة في موضوع الإيمان أن الإيمان يتجسد في الإيمان بالكتاب، وبالتالي هو يتجسد بالامتثال لما يأمر به. والعبارة القرآنية " سعوا في آياتنا معاجزين" تحمل مضمون مهم، وهو أن أولئك الساعين لإعجازها لا يعترفون بعدم إيمانهم بالآيات، ولكنهم بدلًا من ذلك يحاولون جاهدين في إبطال مفعولها حتى تكون عاجزة من أن توصل الحقيقة التي يريدها الله سبحانه وتعالى، وبإعجاز الآية إنما هم يبطلوا العمل الذي تأمر به، وهم بهذا التعطيل يبررون لأنفسهم ولغيرهم سبب عدم استجابتهم للآيات المنزلة.
4- **﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)﴾ **
من خلال هذه الدراسة الهيكلية للمقطع، يمكن أن نلحظ في هذه الآية الشريفة وجود شيئين متقابلين يمكن وضعهما في السياق، الأول هو آيات الله المحكمة، والثاني هو ما يلقي الشيطان. الله سبحانه وتعالى يصف آياته أنها محكمة، والمحكم لا يمكن تغييره أو تبديله أو تحويل معناه. أما ما يلقي الشيطان فهو شيء يقابل هذه الآيات، وهذا ما يشير إلى وجود مساحة من الحرية يمكن أن يعبث فيها الشيطان الرجيم في دس ما يريد ولكن ليس بالقرب من آيات الله المحكمة.
5- ﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)﴾
والآن تأتي الآيتين (53) و ( 54) لتوضيح الحكمة من هذه الحرية التي يتمتع بها الشيطان في إلقاء ما يريد، والآيتان تستعرضان حكمتان، الأولى : هي أن يكون هذا الذي يلقيه الشيطان من إضلال، فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم! ومن هم مرضى القلوب؟ هم الذين يقولون آمنا وما هم بمؤمنون :
﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)﴾
فهم الذين يخادعون الذين آمنوا.
ومن هم قساة القلب؟ هم الذين لا تلين قلوبهم لذكر الله:
﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)﴾ مهما حملت الآيات من إنذار ووعيد فلا يستجيبون لها. أولئك هم الذين ظلموا ، وما هو الظلم؟ هو الإنقاص من الحق؟ وماذا أنقصوا؟ أنقصوا الكتاب حقه، وبظلمهم هذا وبابتعادهم عن الآيات انشقوا عن أصل ملتهم، انفصلوا عن إيمانهم وعن كتابهم إلى شيء بعيد غير الذي أمر الله به.
هذا هو الهدف الأول من هذه الفتنة هو فرز هؤلاء وإبعادهم عن كتاب الله ، أما الهدف الثاني فيتضح في الآية التالية:
6- ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)﴾
ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق، من هم الذين أوتوا العلم؟ هم الذين أخذوا العلم من عند الله من كتبهم السماوية، وكلما رأوا الباطل ازداد إيمانهم وتعلقهم بالحق،ويزداد التزامهم به، والسير على هديه، فتخبت له قلوبهم والإخبات حالة عكس القسوة التي اتصفت بها قلوب الذين لا يستجيبون لهذه الآيات، والله سبحانه وتعالى يعد هذه الفئة بالهداية إلى صراط مستقيم، يهديهم بإيمانهم من خلال هذا الكتاب ومن خلال آياته التي يعتقد مرضى القلوب أنها عاجزة عن الهداية وعن إيصال المؤمن إلى الحق.
# هدف فتنة الأمنيات
1- بهذه الدراسة الهيكلية، تعرفنا على موضوع هذا المقطع، أن هناك فئتين الفئة الأولى تستجيب للإنذار فتؤمن وتعمل الصالحات وتميل قلوبها إلى الآيات المحكمات، وهناك فئة أخرى لا يؤمنون بهذا الإنذار ولا يحدث في قلوبهم الاستجابة، فلا يؤمنوا، وبدلًا من ذلك يسعون لإعجاز الآيات المنزلة وتعطيل مفعولها.
2- ومن آية (ما يلقي الشيطان) فهمنا أن هناك مساحة يتحرك فيه الشيطان يلقي من خلالها ما يريد من فتن بسماح من عند الله، وذلك السماح لعلم الله ولحكمة هو يريدها.
3- اتضح من هذه الآيات الشريفة وجود حكمة إلهية من هذا الإلقاء الشيطاني وهو إعطاء الفرصة لمن يريد أن يكفر بهذا الكتاب أن يكفر، الله سبحانه وتعالى لا يكفل الحرية للإنسان في الاختيار وحسب، بل ويسمح للشيطان أن يلقي البديل الذي يمكنه ومن خلاله أن يلبي رغبة الابتعاد عن محكم الآيات إن أراد، وهي ذات الحكمة التي سمح الله سبحانه وتعالى فيها للشيطان أن يحقق وعده في الإنسان، والله سبحانه وتعالى يريد عباده المخلصين الذين لا يريدون علوًا في الحياة الدنيا الذين يخبتون لآياته ويؤمنون بها ويعتقدون بما جاء فيها.
4- في هذه الدراسة تتضح فئتان: الأولى تأخذ بآيات الله المحكمة والأخرى تأخذ ما يلقي الشيطان وتميل عن آيات الله بل وتسعى لإعجازها وتعطيلها، لصالح ما يلقي الشيطان والذي يحدث ذلك الانشقاق هو الشيطان الرجيم، والانشقاق هو الابتعاد عن الأصل وعن الملة، فهذه الفئة التي تميل عن كلام الله، إنما هي في الأصل من أهل الكتاب وعلى ملة إبراهيم ولكنها وجدت لها طريقًا آخر غير ما أنزل الله واتبعته وسارت عليه.