مدونة حلمي العلق

الأماني والشيطان

 | wishes

مقدمة

بعد أن علمنا أن عقيدة الأمنيات تخالف ملة إبراهيم، توصلنا في الحلقة السابقة إلى نتيجة مفادها أن معرفة التصنيف لا يكفي، أي لا يكفي معرفة أن هناك عقيدة أمنيات وعقيدة عمل، فإن كنا نريد أن نتخلص من عقيدة الأمنيات في حياتنا الإيمانية علينا أن نبدأ بمحو الأمية، محو أمية الكتاب والحصول على المعرفة الكافية التي تكون درعًا منيعًا للمؤمن ضد إفساد الشيطان ومكائده، وقد علمنا بالعلاقة الوطيدة بين الأمية والوقوع في هذه الفتنة، وعلمنا بالخطر الذي يتهدد الأمم الموحدة إن هي عاشت في الأمية.

وكما نسعى ومن خلال أذكار القرآن أن نحصن أنفسنا من وساوس إبليس القاهرة في النفس والتي تبعث على الضيق والضنك وإفساد العلاقات والوقوع في الخطايا والذنوب، بالمثل فإن لهذه الآيات دور لا يقل أهمية من ذلك الحرز، ولكن في جانب آخر وهو حصن العلم والمعرفة بما أنزل الله، فإن إقامة حصن قرآني فكري منيع له الأهمية الأكبر كونه يمنع الإنسان من الوقوع في الحيرة والشك والشتات في الدين، ويحرزه من هجمات الشيطان الفكرية التي تسعى لإفساد العقول والأفكار ومن خلال الدسائس والمكائد الشيطانية.

سنتعرف من خلال آيات القرآن الكريم في هذه الحلقة على أحد أهم أهداف الشيطان الرجيم وأحد وعوده ضد بني البشر هو إيقاعهم في عقيدة الأمنيات في سورة النساء، في المقطع الثاني من مقاطع الأمنيات الأربعة.

وعد الشيطان

قبل أن نبدأ في الحديث عن وعد الشيطان في سورة النساء، نقف أولًا في الآيات التي تحدثت عن هذا الموضوع في مقطع سورة النساء لنبيّن أنها تتحدث عن عقيدة الأمنيات، مقطع الآيات يتحدث من آية ( 116) إلى آية (126) ويتضح من السياق أن الآيات تتحدث عن عقيدة الأمنيات وسنبدأ من الآيات ( 123) وحتى (125):

﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)﴾

1- ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123)

الآية المباركة تؤكد للمؤمنين الذين اتبعوا هذا الكتاب، أنكم لن تدخلوا الجنة ولن تُنقذوا من النار بعقائد الأمنيات التي لا أصل لها في الكتاب " ليس بأمانيكم ، ولا أماني أهل الكتاب" ثم تعطف الحديث نافية الأمر عن أهل الكتاب أيضًا،كونهم قد وقعوا في هذه الفتنة، وكأن الآية تخاطب المؤمنين قائلة: لا تتصورا أنكم بمنأى من الوقوع في هذه الفتنة، فكما وقع الذين من قبلكم وكان الكتاب بين أيديهم، قد تقعوا أنتم أيضًا، إن غفلتم عن كتابكم. ولا تتصورا أن لكم ميزة عند الله عن غيركم، أو أن هناك شيء ينجي يوم القيامة غير ما نصه الله في كتابه، ويجب أن تحذروا حذرًا كبيرًا، ولن ينفع أحد عقيدة تبنى على الظن يوم القيامة مهما كان نسبه وانتسابه. فقاعدة النجاة تبنى على العمل لا على النسبة: "من يعمل سوءًا يجز به ولا يجد له من دون الله وليًا ولا نصيرا".

2- ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124))

تؤكد الآية على أساس دخول الجنة وهو عقيدة العمل، وهذه العقيدة هي من عقائد ملة إبراهيم كما تبين الآية التالية لها والتي تحدثت عن ملة إبراهيم.

3- ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)﴾

فهذه هي ملة إبراهيم، وهذا هو أساسها العقائدي وهو أحسن الديانات. وعندما تتساءل الآية : " ومن أحسن ديناً " فهي تشير إلى أن تغيير هذه العقيدة يغير من دين الإنسان حتى وإن انتسب شكلاً إلى ملة إبراهيم، فكل الأمم التي يخاطبها الله سبحانه وتعالى في الآية الشريفة هم مليين على ملة إبراهيم في الشكل، ولكنهم ليسوا عليها في المضمون.

هكذا يتضح أن هذه الآيات تتحدث عن عقيدة الأمنيات، وهي تتحدث بنفس السياق ونفس الترتيب الذي وجدناه سابقًا في المقاطع التي تناولناها في الحلقات الماضية في سورتي النجم والبقرة، وبعد أن تعرفنا على أن هذا المقطع هو من المقاطع التي تتحدث عن عقيدة الأمنيات نعود للآية (117) لتحدثنا عن الشيطان ووعوده لإيقاع الناس في فتنة الأمنيات.

الأمنيات والشيطان

﴿ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً (122)﴾

عقيدة الأمنيات هي من منتجات الشيطان الرجيم وعمله، هي أحد أساليبه الشيطانية لإحراف الناس عن دين الله بالمكر والخديعة، وفي هذه الآيات الشريفة نلحظ توعد الشيطان الرجيم بأفعال محددة ضد بني البشر :

1**- ﴿ لأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119)﴾ **

هنا أفعال الشيطان التي يتوعد بها المؤمنين: 1- الإضلال " لأضلنهم" ، 2- الإيقاع في عقيدة الأمنيات: " لأمنينهم " ، 3- نسبة نعمة الأنعام لغير الله " لآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، 4- أمرهم بتغيير خلقة الفطرة " لآمرنهم فليغيرن خلق الله". ثم تكمل الآية بقول الله عز وجل على هذا الوعيد الشيطاني لبني البشر " ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا"، من يجعل نفسه تحت إمرة الشيطان وتحت ولايته فقد خسر خسرانًا مبينا، ولكن لن تكون للشيطان إمارة ولا ولاية تنفذ إلا من خلال الخدعة والمكر.

2- ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121)﴾

ثم تعقب الآية التالية إكمالًا على قول الله على وعيد الشيطان، بأنه يعدهم بوعود كاذبة ليست حقيقية، وما تلك الوعود إلا وعود الوهم، الشيطان يبيع على أتباعه الوهم، ويُمنيهم أي يوقعهم في عقيدة الأمنيات، وعقيدة الأمنيات واحدة من الوعود الكاذبة، لأن الأمنية هي وعد بدخول الجنة على أساس عقيدة ما، ولكن الآية تحذّر بأن وعد الشيطان وعد الغرور لا وعد حقيقة، ومن يسير خلف تلك الوعود فلن يجد إلا الخسران : " أولئك مأواهم جهنم " .

3- ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً (122)﴾

ثم تؤكد الآية التالية على عقيدة العمل على أساس ما أنزل الله مرة أخرى، وهو وعد الله الحق، أما وعد الشيطان فهو الوعد الكاذب.

خلاصة:

هذه آيات مهمة كونها تعرفنا بأحد أهداف الشيطان الرجيم ووسائله في الإغواء، وتبين وعوده ضد الناس وهي إيقاعهم في عقيدة الأمنيات. ولماذا يستهدف الشيطان إيقاع الناس في هذه العقيدة؟ لأن الأمنية خادعة، الشيطان الرجيم يستطيع أن يخدع الناس من خلال الأمنيات، يخدعهم حين يوهمهم أن الأمنية من الدين وهي في حقيقتها ليست منه.

الشيطان يرتدي لباس الدين حتى يخدع الناس، ويأتي لهم من خلال ميولهم الدينية، فلا يعبث في العناوين الرئيسية للدين، لا يغير الكليات ولا يعبث فيها حتى لا يكتشف، وحتى تقبل أفكاره ، ولكنه يكمن في التفاصيل يدخل من زوايا دقيقة بقصد إفساد الدين، وتغيير حقيقة الآخرة، بتغيير حقيقة ذلك اليوم. يدس الأفكار الهدامة ليعطل بها حقيقة الدين، ويحول تدين الناس إلى تدين شكلي لا مضمون فيه، ولا فاعلية له، ولا فائدة ترتجى منه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وكأنه يقول: ما المشكلة إن آمن الناس بالآخرة، إذا كانت النجاة يوم القيامة مرهون بعقيدة العمل، فليؤمنوا بالآخرة ولكن دون أن يعملوا لها، أو فليعملوا عملًا غير الذي أمرهم الله به، في النهاية الحساب على أساس النص المنزل وليس على أساس ما يظنون. وبهذا فإن الشيطان الرجيم يستهلك طاقة الناس الإيمانية ورغبتهم في النجاة يوم القيامة في أعمال نتاجها كالسراب، وانطلاقًا من وعود كاذبة لا أصل لها في دين الله، ويكون الإنسان محقوقًا يوم القيامة لأنه وحاد عن كتاب الله المنزل واتبع غير ما أنزل الله.

وهنا تأتي أهمية حرز القرآن الفكري، فهو الحرز الأهم ضد الشبهات، وتتضح أهمية حصانة الايات الربانية لأنها المانعة من تسلل أفكار الشيطان وعمله.