عقيدة الأماني - العمى عن الكتاب
| wishes# مقدمة
عنوان حلقتنا هو العمى عن الكتاب، ونستفتح هذه الحلقة بآية من سورة الأنعام، تربط بشكل واضح بين الوقوع في عقيدة الخلاص يوم القيامة وبين العمى عن الكتاب وعدم التأثر به.
﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)﴾
الآية توجه الخطاب للنبي محمد (ص) أن يوصل إنذاره من هذا الكتاب إلى تلك الطوائف من حوله، وهم أشتات فمنهم من قد تغلغلت الأمنيات في قلبه، والله يخبر الرسول بأن إنذاره هذا لن يصل إلى قلب قد تخدر بفكرة النجاة بلا عمل، والنجاة على أساس الانتماء وعلى مبدأ الأمنيات، فتقول :
**1-﴿ أَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ﴾ **
أنذر يا رسول الله، وما هي أداة الإنذار؟ هي هذا الكتاب الذي هو بين أيدينا (أنذر به)، والرسول ينذر الجميع، ولكن الفئة التي ستستجيب لك هم الذين يخافون الآخرة: " الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم" ، هذه الفئة هي التي سيتفعل فيها الإنذار، مع اشتراط وهو :
**2- ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ﴾ **
ضف إلى تلك الخشية النابعة من الإيمان بالآخرة، عدم وجود مخدر شيطاني يقضي على ذلك الخوف، ويطمئنهم من الآخرة، فإن وجد في معتقداتهم وفي تصوراتهم ولي من دون الله، أو شفيع غير الله، يمكنه أن ينقذهم يوم القيامة، فلن يأخذ هذا الكتاب فاعليته في قلوبهم.
**3- ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)﴾ **
لعل أولئك الذين تحققت فيهم شروط هذا الإنذار، أن يثمر منهم تقوى باستجابتهم إلى ما يأمر الله والانتهاء عما ينهى عنه.
# توضيح
توضح هذه الآية الأثر السلبي الذي أحدثته عقيدة الخلاص عند تلك الأمم، فلم يقتصر أثر الأمنيات على إيقاعهم في الشرك كما لاحظنا في الحلقة السابقة، بل أضعفت استقبالهم للآيات فلم يعد لها تأثير، تأمل كيف تتحدث الآية عن من وقع في الأمنيات، الآية تتحدث عنه للرسول وكأنه أصيب بمرض خطير، يعطل قيمة الشفاء الذي أنزله الله في كتابه، فأصبح هذا المريض لا يرى ما أنزل الله ولا يستجيب لشفائه.
أول المراتب الإيمانية التي تدفع الإنسان نحو الاستماع لكلام الله هو الخوف من الله ومن يوم القيامة، بالاستجابة لإنذار الوعيد رغبة، فإن انطفأت نار الوعيد في قلب الإنسان، تخدر عن الحركة، وتوقف عن السعي في تطبيق ما أنزل الله، وبهذا التوقف يتحقق الهدف الشيطان الثاني الذي يسعى في تحقيقه من خلال الأمنيات.
إطفاء نار التحذير تخدير شيطاني، هو من يسعى لاخماد نار الآخرة في ضمير المؤمنين، هو من يخدعهم ليطفئ لهيب الخوف في قلوبهم، فنتيجة ذلك هو العمى عن كتاب الله، وماذا بعد ذلك العمى؟ الوقوع في المعضلة الكبرى للأمنيات وهي عقيدة تزكية النفس، وماذا بعد تزكية النفس؟ التهاون في الذنوب والتقليل من العمل الحقيقي للآخرة.
# العمى عن الكتاب
﴿ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى (30)﴾
هذه الآيات تأتي بعد الآيات التي تم دراستها في الحلقة الماضية، كانت الآيات ماقبل هذا المقطع تتحدث عن الاستشفاع بالملائكة من قبل مشركي مكة، وقد تبيّن أن تلك الأعمال إنما هي أمنيات وليست حقيقية، وتكمل الآيات :
**1-﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى (27)﴾ **
الآية تكمل الحديث والذي بدأته السورة عن مشركي مكة الذين اتخذوا الملائكة إناثًا، وتبيّن ضعف إيمانهم بالآخرة أو انعدامه مع وجود عقائد دخيلة كالاستشفاع بالملائكة.
**2-﴿ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً (28)﴾ **
واعتمادهم في هذه العقيدة ليس عن علم ولكن عن ظن، ومصادر الظن لا تعطي الحقيقة.
3-﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)﴾
الآية الشريفة تخاطب النبي محمد (ص)، أن أعرض عن ذلك الذي تولى عن ذكرنا، الآية السالفة الذكر من سورة الأنعام تحدثت عن من ينفعه الإنذار (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم) وهم الذين يخشون الآخرة وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، وهذه الآية تؤكد نفس المعنى بطريقة أخرى أن أعرض عن هذا الذي لم يرد إلا الحياة الدنيا، وما الذي جعل نظرته تقتصر على الدنيا لأنه ضمن الآخرة حسب عقيدة الأمنيات، فلن ينتفع بإنذارك له بالذكر والآيات.
هؤلاء لا يرون الآخرة بصورتها الحقيقية، وموضوع التمسك بالكتاب وتفعيله مرتبط بتلك الصورة، ووجود صورة مزيفة غير حقيقية عن الآخرة يُعطل الكتاب، وقد تغيرت تلك الحقيقة بسبب الأمنيات.
وقوله تعالى للنبي : " أعرض" لأن هذا الذي لا يؤمن بالآخرة لن يكتفي بالسكوت حيال الكتاب، بل سيسعى لإعجازه وتعطيل آياته واللغو فيه حتى يبقى هو في عالمه الذي يهواه ومعتقداته الخاصة عن الآخرة.
4-﴿ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى (30)﴾
هذا ما بلغوه من العلم، وهو ليس علمًا حقيقياً ، لقد عموا عن الكتاب المنزل، فلم يصلهم العلم الحقيقي، وكان مبلغهم من العلم هو أن لهم الحسنى وأنهم على خير ويحظون بالقرب من الله بسبب الملائكة.
﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34)﴾
1-﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)﴾
هو من يملك، إذًا هو من يحكم، وحكمه يوم القيامة على هذا الأساس، من أساء سيجزى بإساءته، ومن أحسن فله الحسنى. هذا هو حكمه ولا أحد يملك الحق ولا الجرأة أن يعقب على حكمه سبحانه.
2- ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى (32)﴾
تستعرض الآية أحد أعراض الوقوع في الأمنيات، وهو معضلة عقيدة تزكية النفس في قوله تعالى :" فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى"، هذا المعتقد يدخل المنتمين للطائفة في الجنة، برها وفاجرها، كما ادعى اليهود والنصارى وأن الله سبحانه وتعالى سيتجاوز عن سيئاتهم حتى الكبائر منها، ولن يخلد أحد منهم في النار، ولذا كانت الآية تنص على القاعدة الربانية في هذا الأمر، الذي هو وجوب اجتناب الكبائر والفواحش، وأن المسيء له جزاءه ، والمحسن له المفغرة من عند الله.
الآية تفرض أن يسعى الإنسان في تخليص نفسه باجتناب الآثام، وهذا خلاف ما يسعى الشيطان لترويجه، الشيطان يجتهد إلى صرف أنظار الناس إلى تهوين الآثام والفواحش من أجل أن يوقعهم فيها، ويغررهم بضمان الجنة بأي شكل من الأشكال.
3-﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)﴾
وتأتي هذه الآية لتعطي أثر مترتب على الاعتقاد بتزكية النفس وهو التولى عن ذكر الله. " الذي تولى" تولى عن الآيات ولاها دبره ولم يعرها اهتماماً ولا انتباها، ولم يخف منها ولا من إنذارها، لماذا؟ لأنه يملك الضمانة من الأمنيات، ونتيجة لذلك المعتقد :
4- ﴿وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34)﴾
أعطى القليل في جنب الله، ضعف عمله في الأعمال التي أمر بها الله ، "أعطى قليلًا" ، الآية تتحدث عن الإنفاق كأبرز ملامح الإيمان بالله واليوم الآخر، هي لا تقول أنه لا ينفق، ولكنها تبين أنه ينفق ولكن ببخل، "وأكدى" لصالح الحياة الدنيا، لصالح البقاء. والنتيجة النهائية أن أعمال هذا الذي زكى نفسه تقوى باتجاه الأمنيات، وتضعف باتجاه العمل الصالح.
# خلاصة
1- استعرضنا في المقدمة آية مهمة في موضوع الأمنيات، وهي آية ( وأنذر به ) الآية (51) والتي أعطتنا قاعدة مهمة وهي أن اطفاء التحذير هو تخدير شيطاني، ومن خلال هذا الإطفاء استهدف الشيطان تلك الأمم فأعماها عن كتابها المنزل، فلم تعد تخشاه ولا تخاف إنذاره ولا وعيده، وعندما عمت قلوبها عنه كانت فرصته في مضاعفة تعلقهم بالأمنيات على حساب الآيات البينات.
2- ثم انتقلنا إلى سورة النجم لنتعرف على مرحلة جديدة بعد التولي عن الذكر، وهي مرحلة الوقوع باستدراج شيطاني في معضلة كبرى وهي عقيدة (تزكية النفس) والتي تضمن الجنة لكامل الفئة أو كامل الطائفة حتى مع الوقوع في الكبائر، وعلى أساس هذه العقيدة يستصغر المذنب الكبائر فيقع فيها باطمئنان، لأنه ضمن ومن خلال وجاهة هذه الطائفة النجاة يوم القيامة.
3- إذا كانت عقيدة تزكية النفس تعطي الضمان من الخلاص من النار حتى لمرتكبي الكبائر، فهي تعطي الضمان أيضًا لمن يعطي في جنب الله بضعف (فأعطى قليلا وأكدى)، فوجود هذه العقيدة يضعف الأداء تجاه الأعمال الصالحة التي ترضي الله عن العبد ، لأنها أعطت الضمان في قبول تلك الأعمال حتى وإن كانت قليلة أو ضعيفة الأداء أو ليست كما يريده الله.
# خاتمة
كنا في الحلقة السابقة قد فهمنا أن الشيطان يستنزف طاقة الناس الإيمانية بأعمال الأمنيات التي لا فائدة منها سوى الوقوع في الشرك، واليوم ندرك خطورة استدراج الشيطان في إغواء بني البشر بالكيد والخدعة والأمنيات، بتغييب بصيرتهم عن كتاب الله وإيقاعهم في العمى الغيبي، ليوقعهم بعد ذلك في الخدعة الكبرى وهي عقيدة تزكية النفس، ليحقق غرضين مهمين من ذلك: الأول هو أن يستصغروا الكبائر وتهون عندهم الذنوب فيقعوا فيها، والثاني هو أن تضعف أعمالهم الصالحة والتي تقربهم من الله وترضيهم عنه يوم القيامة. وفي كل الحالات يدخلهم النار يغويهم بالخدعة عن مرضاة الله وهم لا يشعرون.