مدونة حلمي العلق

الأماني والأمية

 | wishes

مقدمة

بعد أن حددنا من القرآن الكريم وجود عقيدتين في موضوع دخول الجنة، الأولى هي عقيدة الأمنيات والثانية هي عقيدة العمل، وعلمنا أن القرآن الكريم يحذر المؤمنين من الوقوع في عقيدة الأمنية، ويحثهم على الدخول في عقيدة العمل، تبين لنا أيضًا أن عقيدة العمل منصوص عليها في ملة إبراهيم والتي تُعتبر الأصل للكتب السماوية المنزلة من بعده، بل وإن إبراهيم نفسه وهو إمام هذه الأمم كان يعمل على أساس عقيدة العمل، وقد تحدث الله عنه سبحانه وتعالى في سورة النجم واصفًا إياه بأنه "وفَّي" إلى ما أنزل الله فقال عز من قائل " وإبراهيم الذي وفَّى " .

وبهذا نعلم أن أحد مسببات الوقوع في هذه الفتنة هو الابتعاد عن الملة، وبصورة عملية هو الابتعاد عن كتاب الله وهجرانه لأن الملة مضمونة في الكتاب المنزل، وقد علمنا سابقًا أن الابتعاد عن الكتاب، وعدم معرفة مافيه يسميه القرآن الكريم أميّة الكتاب، وعلى هذا وُجد عنوان حلقة اليوم وهو: الأمنيات والأمية، فللأمية علاقة وطيدة بالوقوع في عقيدة الأمنيات، ندرس هذه العلاقة إن شاء الله في مقطعين من المقاطع الأربعة التي حددناها سابقًا : الأول في سورة النجم التي درسناها في الحلقة السابقة، والثاني في سورة البقرة في صفحة (12).

الأماني والأمية

1- في سورة النجم

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النجم :

﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى (41)﴾ سورة النجم

عودًا على هذه الآيات المباركة والتي تحدثنا عنها في الحلقة السابقة عن علاقة عقيدة العمل بملة إبراهيم، نتحدث اليوم عن علاقة هذا الموضوع بالأمية في الكتاب، فعندما تقول الآية "أم لم ينبأ بما في صحف موسى، وإبراهيم الذي وفى" كان حريًا بالمؤمن أن يأخذ هذه الأنباء على محمل الجد بالدراسة والتأمل، وأن يتعلم منها الحقيقة، ولأنه لم يأخذ بتلك الحقيقة ولم يدرسها وقع فتنة الأمنيات، وفي قبول ما لم ينزل الله به سلطانًا. وبهذا يتضح لنا علاقة هامة وخطيرة بين الأمية والوقوع في عقيدة الأمنيات.

ندرس ذلك بصورة أوضح في سورة البقرة في صفحة (12).

2- في سورة البقرة

تحدثنا حول هذه الآيات سابقًا في موضوع عقيدة العمل من خلال دراسة الآيتين (81) و (82)، وندرس نفس هذه الآيات ولكن من حيث علاقة الأمية بالأمنيات في الآيات من آية (75) إلى (79)، هذه الآيات الشريفة تقسّم إحدى فرق أهل الكتاب في زمن الرسالة إلى فئتين، الفئة الأولى هم الذين يعلمون الكتاب، ولكنهم لا يريدون أن يسلموا له، أما الفئة الثانية فهم الأميون، الذين لا يعلمون حقيقة ما أنزله الله عليهم ووقعوا في فتنة الأمنيات، ندرس هتين الفئتين كل على حدة:

أ- الفئة الأولى: الذين يعلمون الكتاب

يقول الله سبحانه وتعالى مخاطبًا المؤمنين:

﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)﴾ سورة البقرة

هذه الآيات المباركة تخاطب المؤمنين حول الفئة الأولى مبيّنة أن هذه جماعة لا يرجى إيمانها، فهي تعلم ما في الكتاب وتعلم أن القرآن مصدقٌ لما معهم، لكنهم لا يريدون أن يؤمنوا لكم، ولا يريدون أن يعترفوا لكم بحقيقة ما أنزله الله عليهم حتى لا تحتجوا عليهم به، وحتى لا تقولوا لهم هاهو كتابكم ينص على ما نقوله لكم فلم لا تستجيبون ولم لا تصدقون، الآية تقول للمؤمنين: لا فائدة مع شخص يعلم الحقيقة ثم يحرّفها ولا يقر بها، وينسى أن الله هو المطلع على أفعالهم كلها.

1- "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم"

تخاطب المؤمنين الذين يسعون في إيصال هذه الفئة إلى الإيمان بالحجج والبراهين المنزلة في التوراة.

2- "وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون"

كيف يداخل الإيمان قلب يعلم الحقيقة من كتاب الله، ولكنه يصر أن يحرف ما يعلمه من كتابه السماوي أمام الناس، ويدّعي كلام غير الذي أنزله الله سبحانه وتعالى.

3- "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا"

يدّعون الإيمان أمام المؤمنين من أجل إبطال الدعوة وليس من أجل تأييدها، فهم يقولون لهم آمنا ولكنهم لا يقرون بحقيقة تصديق ما أنزل على النبي بالتوراة.

4- "وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون"

هذا عتاب داخلي يجري بينهم، لا يعلم عنه المؤمنون، بعضهم يعاتب الآخر الذي يتحدث عن حقيقة التوراة، من يكتم حقيقة ما في التوراة يعاتب ذلك الذي تحدث عنها أمام المؤمنين، فالذين يكتمون التوراة لا يريدون أن يكون بيد المؤمنين حجة تؤكد أن عقيدة الأماني عقيدة باطلة ولا يرتضيها الله سبحانه وتعالى، فالذي يكتم الكتاب يعاتب الذي يتحدث به ويقول: كيف تعطي المؤمنين حجة علينا من خلال كتابنا المنزل، فلا تخبروهم حتى لا تكون حجتهم بالغة حين يرون أن التوراة تؤيدهم على ما يقولون.

هذه الفئة تعلم التوراة وتعلم الحقيقة ولكنها لا تريد أن تقر بخطئها ومخالفتها لكتابها المنزل، ولا تريد أن يعلم المؤمنون بحقيقة التوراة حتى لا يكون ذلك حجة عليهم، أما الفئة الثانية فهي تتمثل في الأميين.

ب- الفئة الثانية : الأميون

الأميون هم الذين يعرّفهم القرآن الكريم بأنهم لا يعلمون الكتاب، ولا يعلمون مافيه، وجل ما يعلمونه أنهم ناجون يوم القيامة، يقول الله عز وجل:

﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)﴾

1- "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب"

الفئة الثانية من تلك الفرقة هي فئة يصفها القرآن الكريم بأنهم أميون، أميون جمع أمي، والآية تقول بأن هذا الأمي لا يعلم الكتاب، وهذه الصياغة تتضمن توبيخًا لأنهم كتابيون ولكنهم لا يعلمون حقيقة مافي الكتاب، وكان من الواجب أن يتعلموه.

2- "إلا أماني وإن هم إلا يظنون"

وبدلًا من معرفة حقائق الكتاب، وما يريده الله سبحانه وتعالى، صاروا يعلمون الأماني، وهي عقيدة الأمنيات، ومن هذا نلحظ الارتباط الواضح بين الأمية والوقوع في خدعة عقيدة الأمنيات، هم لا يعلمون ما في الكتاب، ولو علموا لما كانوا فريسة هذه العقيدة الباطلة.

هم أميون ليس من قصور ولكن من تقصير، كان بإمكانهم أن يعلموا ولكنهم استغنوا عنه وهجروه واكتفوا باعتقاداتهم بأنهم أصحاب الجنة، وبنوا على أساس هذه الظنون، والظنون هي خلاف اليقين المبني على معرفة حقيقية بما في الكتاب.

3- "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون"

الويل، تهديد بالعذاب والعقاب الأليم للذي يكتب نصوصًا تخالف ما أنزل الله، من أجل تثبيت عقيدة الأمنيات.

خلاصة

الوقوع في فتنة الأمنيات لها جذور ومسببات، أهم تلك المسببات هي الأمية في الكتاب، فالخلاص من فتنة الأمنية لا يكون بنفي التصديق بتلك الأفكار وحسب، بل يحتاج إلى ضرورة، وهي دراسة الكتاب، ومعاهدته بالتذكير والتذكر، حتى يتحول إلى حصن حصين للفكر والإيمان.

الآيات تبين أن الأمم الموحدة السابقة وقعت في فتنة الأمنيات بسبب أمية الكتاب وعدم معرفة ما يريده الله سبحانه وتعالى من أوامر وعقائد في كتبه السماوية، فوقعوا في مصيدة الشيطان، واعتقدوا بما يروّج لهم من عقائد يراد تثبيتها في الأميين الغافلين، وساعد على تلك الحالة وجود أجواء من التعتيم، وإخفاء بعض من يعلمون الكتاب للحقائق، فلا يظهرون مايعلمون من كتابهم المنزل بغية أن لا يكونوا في موضع المحجوجين وبالتالي المغلوبين أمام المجتمع، لأن الدين في نظرهم غلبة وعلو و انتصار، لا استسلام لأوامر الله المنزلة في كتبه.