مدونة حلمي العلق

عقيدة الأمنيات وملة إبراهيم

 | wishes

مقدمة

تعلمنا في الحلقة السابقة أن هناك عقيدتان تتعلقان بالآخرة، العقيدة الأولى هي عقيدة الأمنيات، والثانية هي عقيدة العمل، وعلمنا أن الله سبحانه وتعالى يريد منا أن نعتقد بعقيدة العمل، ويحذرنا من الانزلاق إلى فتنة عقيدة الأمنيات، وقد تبيّن لنا أن هناك أمم أنزل الله عليها كتاب، إذ كانت موحدة إلا أنها وقعت في فتنة الأمنيات بالاستدراج الشيطاني و بعناوين عدة.

تلك الأمم الموحدة والتي وقعت في عقيدة الأمنيات، كانت في الأصل على ملة إبراهيم (ع)، أي أنها كانت على الحقيقة، وملة إبراهيم أُسست على أساس عقيدة العمل لا على أساس عقيدة الأمنيات، وندرس اليوم أحد المقاطع المباركة في سورة النجم والتي تُؤكد لمتبعي ملة إبراهيم ذلك الأساس وتلك العقيدة، فإذا كانت الملة أسست على هذا، فإن الذين ابتدعوا عناوين أخرى وانحرفوا إنما انحرفوا عن أصلهم وهو ملة إبراهيم.

ندرس علاقة الأمنيات بملة إبراهيم في سورة النجم من آية (34) إلى آية ( 41).

الأمنيات وملة إبراهيم

يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى (41)﴾ سورة النجم

هذا جزء من المقطع الرابع من المقاطع الأربعة التي تتحدث عن عقيدة الأمنيات، فلو لا حظنا الآية (24) لوجدناها تتحدث عن الأمنية (أم للإنسان ما تمنى* فلله الآخرة والأولى)، فالآية تتساءل استنكارًا على ما يعتقده الإنسان من عقائد تعد أماني وليست حقيقة، هل يمكن أن يحصل الإنسان على ما يدعيه من أمنيات في الآخرة؟ ويتواصل الحديث حتى تصل للآية المعنية بالدراسة في هذه الحلقة وهي الآية (34):

1- " أعنده علم الغيب فهو يرى"

هذا ما يشير إلى أن عقيدة الأمنيات متعلقة بالغيب، وأن الذي يُمَني نفسه بالنجاة يوم القيامة بدون عمل إنما يتحدث عن الغيب دون علم، وعلم الغيبيات إنما هو مختص بالله سبحانه وتعالى، والسورة تتساءل هل الذي يعمل على أساس الأمنيات يعلم الغيب؟ ويرى ما سيحدث في الآخرة حتى يحكم بذلك؟

2- " أم لم ينبأ بما في صحف موسى"

هنا تذكر الآية الشريفة أن ما تحويه صحف موسى هو خلافٌ لما يعتقده ويظنه عن الآخرة، وتتساءل الآية، ألم ينبأ بما في صحف موسى؟ والإجابة المتوقعة أنه بلى نبئ بها؟ لأن الذين وقعوا في هذه المشكلة هم أهل كتاب، مرض الأمنيات يُصاب به أهل الكتاب، ولكن ما الذي جعله لا يعمل بما نبئ به؟ لأنه هجر كتابه، وأخذ بالأثر دون أن يتحقق من توافقه مع ما أنزل الله، وعندما تتحدث الآية عن صحف موسى، فهي تخاطب الذين يؤمنون بموسى وصحفه، وتربط بين موسى والصحف فلا قول لموسى غير ما أنزل الله، ولا اعتماد إلا على ما لدى موسى من صحف، لا ما ينسب إلى موسى من أقوال لا علاقة ولا ارتباط لها بالكتاب!

3- " وإبراهيم الذي وفى "

وفي هذا إشارات عدة ، منها أن صحف موسى هي في الأصل صحف إبراهيم، لأن موسى على ملة إبراهيم، ولا يمكن القول بأن ما لدى موسى جديد وفي هذا الجديد يخالف ما جاء به إبراهيم، لأن الأصل ملة إبراهيم، فإذا كنتم تؤمنون بإبراهيم إماماً وبموسى نبيًا فعودوا إلى ما جاؤوا به من صحف، فإن أردتم صحف إبراهيم فهي ذاتها صحف موسى وهو ذاته ما قاله موسى ودعا إليه وهو نفسه ما جاء به إبراهيم ودعا إليه.

أما بخصوص وفاء نبي الله إبراهيم، وفّى بالعمل في تحقيق ما جاء به الله، ومن جعل خليل الله إمامه كان عليه أن يقتدي به، ولأن إبراهيم هو إمام أهل الكتاب، وهو إمام أهل مكة، يَذكره الله سبحانه وتعالى إشارة إلى مخالفتهم إلى أفعال إمامهم الذي يأتموا به.

4- آية (38) : " ألا تزر وازرة وزر أخرى"

هنا نص رباني منقول من صحف إبراهيم، ونفس هذا النص نقل في صحف موسى، وهو ينقل ويثبت في القرآن بالنص لمن آمن بهذا القرآن، فمن آمن بهذا القرآن وعمل بهذه العقيدة هو كأنما عمل بما جاء في صحف إبراهيم وموسى. وماهي هذه العقيدة؟ هي أنه لن يحمل أحد وزر أحد، لن يأت أحد يوم القيامة ليرفع الأوزار والأثقال المحملة على ظهر الإنسان المذنب يوم القيامة فيغفر له ذنبه ثم يدخل الجنة، هكذا فقط بسبب انتماءه وبلا عمل ودون توبة وبلا انقطاع عن الذنوب.

5- آية (39) : " وأن ليس للإنسان إلا ماسعى"

وتأكيدًا على تلك العقيدة، أنه لا حمل لأحد على أوزار أحد، فإن الإنسان يوم القيامة إنما يجازى بعمله، له ما كسب وعليه ما اكتسب، وسوف يقاس سعيه في تطبيق هذا الكتاب وسوف توزن أعماله على أساسه، وفي الوفاء بما أمر به الله، فإن وفّى كان من أتباع إمامه إبراهيم وإن لم يوفِ كان من أتباع أهل النار والعياذ بالله من النار.

6- " وأن سعيه سوف يرى "

ما سيراه الإنسان يوم القيامة سعيه وليس شيء آخر، فإذا كانت أمنياته توهمه بغير الحقيقة فهذه الحقيقة، هذه الآيات تريد أن تعيد الإنسان إلى رشده، فالآخرة ليست شيئًا يمكن الاستهتار به.

7- " ثم يجزاه الجزاء الأوفى"

كما أن عباد الله سبحانه وتعالى يوفون بعهودهم مع الله، كذلك فإن الله يوفي بعهده ولا يخلف الميعاد، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.

خلاصة

ما هي علاقة الأمنيات بملة إبراهيم؟

حذر الله عز وجل أتباع ملة إبراهيم من الوقوع في فتنة الأمنيات، وهذا التحذير منصوص عليه في صحف إبراهيم وصحف موسى، وقد ثبته الله سبحانه وتعالى ونقله لنا في هذا الكتاب، الآيات الأربع السابقة هي من عقائد ملة إبراهيم، وهي من نصوص صحف إبراهيم وموسى، وهي تؤكد أن الأساس الذي سيجازى عليه الإنسان هو عمله، التذكير بنبي الله إبراهيم وملة إبراهيم، هو بسبب أن نبي الله إبراهيم هو مؤسس الملة، وإمام المسلمين، وأن أي تغيير طارئ هو انحراف عن أصل الملة. وعندما يذكرنا الله بملة إبراهيم وينقل لنا نصوص الملة، فإنه يطالبنا بالالتزام بملة إبراهيم، والامتثال لها وتطبيقها وعدم الانحراف عنها.

اللّهُمَّ اجْعَلْ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ في رَوعي مِنَ التَّمَنِّي وَالتَّظَنِّي وَالحَسَدِ ذِكْراً لِعَظَمَتِكَ؛ وَتَفَكُّراً في قُدْرَتِكَ؛ وَتَدْبيراً عَلى عَدُوِّكَ.