عقيدة الأماني - الشرك
| wishes# مقدمة
تمكن الشيطان من إيقاع الأمم الموحدة في فتنة عقيدة الأمنيات، بالمكر والخديعة كما بينت آية (52) من سورة الحج آية (ما يلقي الشيطان)، وقد اتضح لنا أن هذا الذي يلقيه الشيطان، يلقيه وهو مستتر متخف لا يظهر بوجهه الحقيقي ولكنه يدس أفكاره وعقائده بين ثنايا كلمات الرسل والأنبياء والصالحين فتتلقفه مرضى القلوب الذين يبحثون عن الأمنية، ويوهمهم الشيطان اللعين بدوره أنها من عند الرسول وبالتالي هي من عند الله، وفي المقابل تبقى آيات الله المحكمة ثابتة لا يمسها التغيير أو التحويل أو التحوير يتمسك بها من يؤمن بها حق الإيمان ولا يرتاب.
يستعرض القرآن الكريم نوعين من تأثير عقيدة الأمنيات على الأمم، الأول على مستوى إضافة عمل واهم لافائدة منه، بل يجلب الضرر على صاحبه يوم القيامة لأنه أدخل صاحبه في الشرك بالله، والثاني على مستوى إضعاف قيمة العمل الذي أمر الله به في كتابه.
نعلم أن أي إخلال في الطاعة الخالصة لله، هو إخلال بالعبودية التامة، فالطاعة لا يصح أن تكون مجتزءة، وتمام العبودية لله هي عدم الإصغاء لأي أمر من عند غير الله - قل أو كثر، وبالتالي فإن تمام طاعة الله تتجسد في عدم طاعة غيره، ويأخذ مصداقه النهائي في عدم الأخذ بأي أمر أو الانتهاء عن أي نهي يخالف شيء من كلام الله في كتابه المنزل.
# انطلاقة من آية (52)
ندرس علاقة الأمنيات بالشرك انطلاقًا من آيات ما يلقي الشيطان في سورة الحج، من أجل أن نبني الفكرة الأساسية وهي أنه ومن خلال الآيات المحكمة ينطلق عمل، ومن خلال ما يلقي الشيطان ينطلق آخر مختلف، والخدعة تكمن فيما ألقاه الشيطان الرجيم، فالعمل الذي ينطلق من إلقاء الشيطان هو أمنيات يخدع أصحابه، ظانين أنه ذو قيمة ولكنها في الواقع ليس كذلك.
ندرس أولاً من خلال الآيات من سورة النساء، ارتباط عقيدة الأمنيات بالشرك، ثم نؤكد على العمل الذي أوقع مشركي مكة في الشرك من سورة النجم.
# الأمنيات والشرك
﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)﴾
هذه الآيات تتحدث عن مشركي مكة الذين اتخذوا الملائكة شفعاء اله، فكيف أوقعهم الشيطان في الشرك؟ لقد أوقعهم في هذا الذنب العظيم من خلال إقناعهم أن هذا الأمر (وهو التوجه للملائكة بالاستشفاع ) هو أمر يراد من قبل الله ( أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد )، وقد أقنعهم من خلال الطريقة التي أوضحتها سورة الحج في زرع الأمنيات بطرق لا يظهر فيها الشيطان بوجهه الحقيقي، وعلى هذا الأساس يتحرك هذا المقطع المبارك وتتحدث الآية (116) :
1- " ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدًا "
الآية تعالج وهم الهداية، وتتحدث عن الضلال الذي لا يشعر به صاحبه، فهذا الذي ضل ضلالًا بعيدا ، ضل وهو لا يعلم أنه قد ضل بل يظن أنه يحسن صنعاً، ويظن أنه يقوم بعمل يرضي الله ويقربه إليه! لكنه سيتفاجئ يوم القيامة أنه ضل طريقه في الوصول لذلك الهدف، وهو لا يعلم، الآية تقول أن من يأخذ بحكم غير حكم الله، وعقيدة غير عقيدة الله التي بينها في كتبه السماوية، إنما اتخذ له آمرًا آخر، وهذا الآمر الآخر شريك لله في العبودية، يشارك في الأمر والنهي، والآية تؤكد أن من يقوم بعملية التبعيض فيأخذ ببعض الكتاب ويترك الآخر لصالح شيء خارج الكتاب، فقد ضل ولم يصل للحقيقة التي يريدها الله منه، بل هو واهم في مسيره نحو الله، والآية التالية تؤكد على حقيقة هذا الوهم الذي يعيشه هذا المتوجه بالدعاء للملائكة :
2- " إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدًا "
الآية تقول أن هذا الدعاء الذي يتوجهون به إلى الملائكة في طلب الشفاعة والنصرة، لا يصل في حقيقته إلى الملائكة، فهم إنما يعيشون الوهم، وما يدعون إلا أسماء إناث في الخيال، فلا أحد وراء هذه الأسماء لأنها لا تعبر عن أحد من الملائكة، "وإن يدعون إلا شيطانًا مريدا" ، وهذه هي الخدعة أن الذي وراء هذا الدعاء هو الشيطان، هذه هي الحقيقة التي لا يعلمونها، هو من دعاهم لهذا العمل، وهو الذي أوقعهم في هذه الفتنة واستجابوا لها، وهو الآن المتفرج على هذا العمل الذي لم يأمر به الله، ولا يرضي الله.
3- "لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضا"
الذين أطاعوا الشيطان كانوا من نصيبه، وكأنه امتلكهم، فبعد أن استجابوا له اعترفوا بملكيته. الشيطان مخلوق غيبي ملعون ومطرود من قبل الله، وقد توعد هذا المخلوق أن يأخذ من عباد الله نصيبًا مفروضا، يأخذ هذا النصيب من خلال استدراجهم إلى طاعته، ﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)﴾ ، وبطاعتهم لأوامر الشيطان الخفية والمستترة أصبحوا عباد للشيطان بدلاً أن يكونوا عبادًا خالصين لله. وهاهو قد حقق وعده فيهم وقد وقعوا في فتنته دون أن يشعروا ، وذلك بسبب ابتعادهم من منهاج الله الواضح في كتبه.
الآن نؤكد على نفس المعنى من خلال الآيات في سورة النجم:
﴿ أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى (20) أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى (23) أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)﴾
الآيات المباركة تتناول نفس مشكلة عبادة الملائكة، وتذكر هذه الآيات الشريفة أسماءهم المدعاة من قبل مشركي مكة، ثم تعقب على تلك التسميات الكاذبة في آية (23):
1- " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان"
الآية تقصد أسماء الملائكة، التي ذكرتها الآيات السابقة، هذه أسماء جعلت لتلك المخلوقات مكانة عالية في نفوس الذين استشفعوا بهم، وجعلتهم وسيلة استشفاع لله سبحانه وتعالى، والآية الشريفة تقول: لا وجو لتلك الأسماء، إنها ليست حقيقة، فأنتم تتوجهون بدعائكم إلى الأوهام، هي تسمية نابعة منكم، أخذتموها من آبائكم، وآباؤكم انفتنوا بالظنون التي غرسها الشيطان، ولو أنهم اعتمدوا على السلطان في أخذ العقيدة لما سمحوا للشيطان أن يعبث في عقائدهم، ولكنهم ذهبوا وراء الظنون وراء السراب ووراء ما تهوى أنفسهم.
2- " ولقد جاءهم من ربهم الهدى"
جاءهم من ربهم كتاب فيه كل الحقيقة، فلماذا لا يتبعوه؟ ولماذا لا يأخذون منه الحقيقة ويعملون على أساسها؟ لأنهم يريدون أن يعملوا على أساس الأمنيات!
3- " أم للإنسان ما تمنى * فلله الآخرة والأولى"
إذًا القرآن الكريم يسمي هذا الدعاء وهذا النداء الذي يتوجهون به إلى الملائكة ليشفعوا لهم عند الله، عقيدة أمنيات لأنها مبنية على الظن وليست على اليقين.
4- " وكم من ملك لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى"
وهذه الآية تبين أن العمل الذي أوقع مشركي مكة في الشرك هو توجههم للملائكة بتلك الأسماء، وتوجههم لهم بالدعاء من أجل أن يقربوهم ويشفعوا لهم عند الله في شؤون الدنيا، وفي النجاة يوم القيامة. والآية تبين أنه حتى وإن شفع الملائكة لأحد، فلن تغني تلك الشفاعة شيئًا، لأن مرجع مسألة نجاة الإنسان كلها لله، مشروطة برضى الله عنه، والرضى يأتي بالعمل، فلا فائدة من تلك الشفاعة لمن لا يرضى الله عنه، ولا هروب من الحكومة الإلهية العادلة.
# خلاصة
أن ما بثه الشيطان من أمنيات بوسيلة الكيد والمكر في عقائد تلك الأمم، تحول إلى عقيدة ثابتة متوارثة تتناقلها الأجيال، وقد أوقعتهم في الشرك من حيث لا يشعرون، وقد تمثل الشرك في قريش جلياً في التوجه بالدعاء إلى أسماء لم تأت بها الكتب السماوية، يدّعون أنها أسماء ملائكة، ويدّعون أنهنّ بنات الله ، ويتوجهون لها ويستشفعون ويتوسلون بهم إلى الله تقربًا منه وزلفة إليه، ومن أجل قضاء حاجات الدنيا أو حاجات الآخرة، وما تلك الأعمال إلا أمنيات غرسها الشيطان من أجل أن يوقعهم في الشرك ويبعدهم عن العمل الحقيقي والمنجي.
هذا الفعل الذي يقومون به استنزف طاقتهم في عمل لا يؤدي إلى ما يتمنونه، بل أفسد علاقتهم مع الله بالوقوع في الشرك، كما أن له تأثير على مستوى آخر وهو إفاسد عقيدهم السليمة وأعمالهم الصحيحة الواردة من الكتاب السماوي كما سنرى ذلك في الحلقة القادمة إن شاء الله، تحت عنوان الأمنيات والفساد.