كلمات ليست للبيع
هناك بون شاسع بين من ينطلق من القرآن باحثاً عن الحقيقة، وبين من ينطلق من فكرة باحثاً عن دليل لها من القرآن، والفارق أن النتيجة في النهج الأخير مسبقة التقرير لا تتغير، أما منهج البحث عن الحقيقة والتواضع لها فإنه يُظهر إسلام المؤمن لله ويترجم معنى العبودية له وحده. فالمؤمن يستنطق القرآن في بحثه عن الحقيقة بلا انحياز إلى أي فكرة مسبقة، وإنما من رغبة صادقة في معرفة الحقائق وحسب.
لا نبالغ إن قلنا إن الديانات بكتبها السماوية عانت على مر العصور من كثرة التجار والسماسرة المستثمرين للكلمة ومن قلة الطائعين المستسلمين لها، عانت من أولئك الذين تشمئز قلوبهم إذا ذكر الله وحده وتليت عليهم آياته البينات، الكارهين لما أنزل الله ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾[1] ، الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
القلب هو محطة استقبال الكلمات الربانية، وما لم تكن أداة الاستقبال سليمة لن تصل تلك الكلمات إلى مبتغاها، وسلامة القلب تعني سلامته من الزيغ لأي اتجاه كان. القرآن حديث القلوب، والحديث ينحرف عن موضوعه إذا تم اقتطاع جزء منه، ودراسة الكتاب التي يأمر الله بها تعني تناول مواضيعه بأخذ جميع الآيات التي ذكرت ذلك الموضوع دون استثناء، ومن أهم تلك الآيات التي يجب أن توضع في مقدمة أي دراسة هي الآيات المحكمات.
لقد صنف القرآن آياته الكريمة إلى محكم ومتشابه، والآية المتشابهة هي التي تحتمل في فهمها أكثر من اتجاه، فيتمكن من لديه الرغبة في استخدامها لوحدها كدليل على ما يحب ويهوى، وأن يستثمر صياغتها وكلماتها لمصالحه الشخصية، أما الآية المحكمة فهي التي لا يمكن الفرار من معانيها وألفاظها، ولا يمكن صرفها عن هدفها ومبتغاها. والله سبحانه وتعالى في الآية السابعة من سورة آل عمران يقر هذه الحقيقة ويؤكد على ضرورة أن لا تؤخذ المتشابهة دون أن تؤخذ المحكمة معها، لأن المحكمة توجه المتشابهة في اتجاه واحد فلا تتوه ألفاظها المتشابهة في يد أصحاب الهوى والزيغ.
تقول الآية الكريمة
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾[2] .
تحذر الآية الشريفة السابقة من أن يتحول الكتاب السماوي إلى أداة لإثبات الأهواء، وتشير ضمناً إلى تلك الفئة التي تنطلق إلى الآيات لأخذ ما تريد من أدلة على الهوى والضلال الذي لا تستطيع أن تنفك عنه. القرآن شارحٌ لبعضه البعض، ومحكم آياته يوضح اتجاه ما تشابه منه، وحين تنص الآية على أنه ”وما يعلم تأويله إلا الله“ فهي تؤكد أن تأويل الآيات المتشابهات هو عند الله بإرجاعها إلى آياته المحكمة، فلا يصح فهم المتشابهة وتوجيهها دون الرجوع للخطوط العامة التي رسمها القرآن في محكم آياته والتي لا يصح تجاوزها بأي حال من الأحوال.
وتقر الآية الكريمة أن السبب الرئيس في هذا الاستغلال هو مرض القلب، فمرضى القلوب تزيغ قلوبهم إلى ما يشبه ما يريدون كدليل من الآيات، في حين يتعامون عما لا يمكن أن يوافقهم ولا يتساير مع رغباتهم وأهوائهم.
إذاً فإن الإيمان بالآخرة وغسل القلوب من الأهواء هو أساس في تحصيل العلم من القرآن، على أن يكون السعي في ذلك التحصيل على سبيل نجاة لا على سبيل البغي من الطوائف المناهضة أو التعالي على الغرماء في الدين وإثبات ما يصعب إثباته من الآيات البينة، وإنما التعامل مع الكتاب كحبل متين يخرج المتمسك به من لجج الغرق والظلمات.
رفع الكتاب السماوي عالياً كي يعلو ولا يعلى عليه ليس مرهوناً بالشعارات، إنما بتفعيل حاكميته على كل ما بين أيدينا، والقرآن هدى ونور فقط لأولئك الخاضعة رقابهم للكتاب وأوامره والذين يريدون أن يجتازوا القنطرة بصدق. الكتاب السماوي هدى للباحثين عن الحقيقة لا المتسكعين بين الكلمات بحثاً عن منفذ للعبور للأحكام الدخيلة أو إلى مضامين الطائفية الضيقة.
[1] سورة محمد آية (9)
[2] سورة آل عمران آية (7)-(8)
نشر في: